الهوس مرضٌ نفسي قبل الجنون بقليل.. وهو مقدمة (جنون العظمة)..
وإذا أصيب به الإنسان خُيِّل إليه أنه فلتة زمانه، وأنه كذا وكذا على ما يهوى، ويريد.. أحلام اليقظة تكاد تصبح حقائق.
ومريض الهوس قد يصدر شيكات بمبالغ ضخمة.. ولكن بلا رصيد. وقد يتحدث عن مشروعات كبرى ينوي القيام بها حديث الواثق الجاد، ويتحدث عن أشياء عظيمة.. ولكنك لا تجد عند التنفيذ شيئاً..
هوس المرأة
والهوس قد يصيب الرجال والنساء.. فإذا أصاب المرأة (اَلءهَوَسُ النفسي) صارت تتصور "العظمة" في نفسها والكمال لذاتها، وأخذت تبالغ في زينتها ومكياجها، وحبها للمظاهر، وتكذب في الحديث عن دخل زوجها فتضربه في عشرة أو عشرين أو مئة، حسب درجة الهوس وشدته، وقد تسرف في بذل الهدايا والوعود، وتصل بزوجها إلى درجة الإفلاس لو أطاعها، وهي مريضة غير ملومة أخلاقياً تستحق العلاج النفسي لا العقاب، ولكن بعض الرجال الذين تُصاب زوجاتهم بالهوس النفسي قد لا يدري أنه مرض يستحق العلاج، ويظنه جزءاً من شخصيتها إن كان الهوس سابقاً لزواجه منها، فأخذها وهي مصابة بالهوس النفسي أصلاً..
فإذا كان الرجل يجهل أن هذا مرضٌ نفسي يستوجب العلاج لدى اخصائي وليس العقاب، فإنه يكاد يُجَنّ من تصرفات زوجته.. وينتهي به الأمر في الغالب إلى طلاقها ولو كان يحبها ولكن لسان حاله يقول:
أنت العروس لها جمالٌ رائعٌ
لكنها في كُلِّ يوم تُصءرَعُ
والمشكلة أنها (تصرعه) معها.. و(تصرقع به) إذا لم يعالجها عند طبيب نفسي، والذي لا يعرف أنه مرضٌ نفسي لن يطلب العلاج..
@@@
وقد تنتشر (ظاهرة الهوس غير المرضي) عند بعض المجتمعات، في بعض الأوقات.. فيسود حب المظاهر، والتفاخر، وتضخيم الذات، والإحساس بالزهو، وقد تسود أنواع من الهوس الاجتماعي كالموضوعات المتغيرة..
فهناك (الهوس بالكرة).. يسود فترة من الزمن وبخاصة في أوساط الشباب حتى يصبح هو همهم، وهمتهم، وحديثهم، وشغلهم الشاغل، يتجادلون حول أحداث المباريات، ويتبارون كلامياً حول الفرق التي يشجعونها.. وهم لا يمارسون الرياضة التي هي نافعة.. بل هم مصابون بهوس المشاهدة والتعليق والثرثرة حول الأحداث..
وهناك (الهوس بالسفر) حيث يصبح هواية لدى كثيرين.. وربما تقليداً لا تحيد عنه كثير من العائلات، القادرة وغير القادرة.. ويقدم على واجبات أهم.. ويصبح من المظاهر اللازمة!
@@@
والهوس النفسي عكس (الاكتئاب) فالثاني صاحبه حزين بائس.. أما المصاب بالهوس وبخاصة (هوس العظمة) فهو في حالة غريبة من (الفرح والانبساط) بدون أسباب موضوعية.. وهو مرحلة قبل (جنون الهوس) بقليل.. وغالباً ما يصاب المريض بحالة دورية: مرة هوس يصحبه فرحٌ شديد ونشاط بالغ.. ومرة كآبة مظلمة.. وكل هذا له - بإذن الله - علاج لدى أطباء النفس.. ولكن المشكلة هي حين يكون الهوس ظاهرة اجتماعية يحس فيها المجتمع بجنون العظمة.. وقد يصاب رئيس الدولة بجنون العظمة - وأظنه أصاب صدام حسين - فيصل ببلاده للهاوية، لأنه هو الرئيس والرأس فإذا جُنّ الرأس انتهى الأمر.
@@@
هَوَسُ الأسهم
وقد أصاب مجتمعنا ما يمكن تسميته (هوس الأسهم) وبخاصة في عامي 2004و2005م فصارت همّ الكبير والصغير.. الرجل والمرأة، ودخل فيها من يفهم، ومن لا يفهمها، وأصبحت شغل الناس، وحديث المجالس، وهواجس النفوس.. يفكر فيها الناس معظم اليوم.. حتى وهم يأكلون، ويحلمون بها إذا ناموا، و(يهوجسون) فيها حتى في الصلاة أحياناً، وصار كثيرون يدعون الخبرة والفهم، ويقدمون النصائح والتوصيات.. الفاهم وغير الفاهم.. عن نيّة طيبة أو لغرض شخصي.. المهم أن (هوس الأسهم) سيطر على المجتمع، وصار هو شغله الشاغل، وخبزه اليومي، ودفع هذا بالمؤشر (هو الآخر) إلى الهوس.. فأصابه الاحتقان الشديد والاندفاع الجنوني فتجاوز عشرين ألف نقطة بسرعة عجيبة.. محيراً كل خبراء الأسواق وعلماء الاقتصاد..
وتداول الناس في عام 2005م وحده بمبالغ هائلة تزيد على ما تم تداوله في العشرين سنة السابقة كاملة!!
وتداول الناس في الشهرين الأولين فقط من عام 2006م ما يقارب ألف وخمسمائة مليار ريال!! رقم خرافي!!.. وهو يدل على اندفاع الجميع للسوق، وشيوع الهوس بالأسهم، ثم حصل انهيار السوق، وانهالت الخسائر، فصار السوق هو حديث الجميع، وحدث الساعة، وطار في الفضائيات، ودارت حوله الندوات الطويلة، والحوارات، والأخذ والرد، وتوتَّرت الأعصاب، وانتشر الإحباط، وشاع الاكتئاب.. وكل هذا سببه أن (هوس الأسهم) صار ظاهرة اجتماعية.. اختلط فيها العالم بالجاهل، والخبير بالغر، وصارت أبصار المجتمع شاخصات إلى شاشات الأسهم في الصباح والمساء..
والمحللون يتبارون في تغذية الهوس الجماعي.. إلا من رحم ربي.. والمسؤولون عن الاقتصاد لم يبادروا إلى طرح شركات جديدة برؤوس أموال كبيرة، تخفض حرارة سوق الأسهم، وتضع سدوداً لطوفان السيولة، وتوظف فوائض الأموال في شركات جديدة، مأمونة وتوفر فرص عمل وخدمات ومزيداً من الناتج الاقتصادي للوطن.. والعجيب أن دراسات الجدوى لعدد من الشركات الجديدة، التي تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة، موجودة لدى (الهيئة العامة للاستثمار) وهي تبحث عن رؤوس الأموال الأجنبية لتحويلها.. بينما الأموال لدينا فائضة تضارب في سوق الأسهم حتى انتفخ وصار فقاعة ثم انفجرت الفقاعة كأي بالون ينفخ فيه الإنسان فوق احتمال البالون (فينفقع) في الوجه الذي ينفخ فيه.. كانت سوق الأسهم لدينا (تفحط) تدور على نفسها بدون طرح شركات جديدة، وقد نبهنا لهذا عشرات المرات طوال عام 2005م هنا في حروف وأفكار وفي اقتصاد "الرياض"..
@@@
هوس العشاق
ويُقال له (جنون العشق).. فالعاشق وإن لم يصل إلى درجة الجنون الرسمي فقد أصابه الهوس بمعشوقه فلا يرى غيره في الدنيا.. فهو مهوس به!!
والعشاق يجدون اللذة في العذاب، والعذاب في اللذة مع هذا الهوس العجيب..
وقد يشغف الرجل حباً بامرأة إلى حد الهوس وغيرها أجمل منها وأفضل، ولكنه (مهوس) بها لا يريد غيرها..
يقول جميل بثينة:
ولرُبَّ عارضة علينا وَصءلها
بالجدِّ تخلطه بقول الهازل
فأجبتُها بعد تستُّر:
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو أنَّ في قلبي كقدءر قُلامة
فضلاً.. وصلءتُك أو أتتك رسائلي
وهوس العشق.. أو جنونه.. موجود لدى كل المجتمعات والشعوب.. وإن كان بدأ ينهزم أمام سرعة العصر الحديث..
يقول الفرنسيون:
"إذا كان الرجل مجنوناً بامرأة فهي دواؤه.."..
@@@
والعجيب أن الإنسان حين يعشق إنما يريد الخلاص من الشقاء وكثيراً ما يقع فيه.. كأنما سعى له بقدميه.. إن كان في الحب خيار.. واختيار..
المؤكد أن في هوس العشق تجتمع المتعة مع العذاب، فالعاشق بشوقه للخلاص من الشقاء وتوقه إلى الاستمتاع بالجمال، يمشي إلى ذلك تسير حافية على جسر العذاب.. والحب رجلٌ.. وامرأةٌ.. وحرمان..
@@@
وقد لخص شاعر عاشق لذة الحب الحلوة والممزوجة بمرارة الشقاء فقال:
قالوا جُننءتَ بمَنء تهوى فقلتُ لهم
ما لذَّةُ العيش إلا للمجانين!
والجنون نوعان (جنون الهَوَس) و(جنون الفصام) والأول لذَّةٌ خالصة، والثاني عذابٌ خالص، ويبدو أن الحب يجمع بين جنون الهوس وجنون الفصام! فالعاشق الغارق في هوى معشوقه حتى القاع، فيه هوس جنوني بهذا المعشوق، وفيه انفصامٌ عن عالم الواقع.. في عالم الواقع من هو أجمل من محبوبته، وأكمل، ولكنه منفصم العقل والعين عن الواقع، مَهُوءسٌ بحبيبه لا يكادُ يرى غيَرهُ في الوجود، وإذا كان جنون الفصام هو الشقاء بعينه، والعذاب، فإن جنون الهَوَس هو السعادة القصوى التي لا ينالها عاقلٌ في الدنيا، ولا تتحملها الطبيعة البشرية، فالهوس هو (جنون العظمة) والمصاب به (وين هو عند روحه؟!) إنه سِّيدُ الدنيا وما فيها.. والمصابون بهوس المجنون هم الذي عناهم المثل: (المجانين في نعيم!) والآخر: (كل أيام المجانين أعياد) ولعلهم من عناهم "ديل كارنيجي بقوله: "إن المجانين أكثر سعادة مني ومنك! وكيف لا يكونون كذلك وقد حلوا كل مشكلاتهم، ووجدوا في دنيا الأحلام الأهمية التي طالما تمنوها في أعماق أنفسهم؟! إنَّ في وُسءع الواحد منهم أن يمنحك شيكاً بمليار دولار!! أو يعطيك خطاب توصية لجنكيز خان!!" قلت: والعشق الجارف خليطٌ عجيب بين جنون الهوس وجنون الفصام فيه لذَّة الهوس العُظءمى، ومرارة الفصام الكبرى..