الفلاسفة جون رولز و روبرت نوزك و مايكل ساندل و أمارتيا سن :
السوبر ليبرالية : ديموقراطية الفقراء في مواجهة ديموقراطية الأغنياء
حسن عجمي
نشهد في هذا المقال صراع الفلاسفة المعاصرين حول ما هو النظام السياسي و الاقتصادي الأفضل. النظريات تختلف و تتنافس ضمن فلسفة السياسة فنرصد الديموقراطيات المتنوعة و اقتتال اليمين و اليسار إلى أن نصل إلى مناقشة إمكانية نشوء السوبر ليبرالية. الفلسفة أساس كل فكر و سلوك و مجتمع؛ فمع اختلاف فلسفتنا تختلف مجتمعاتنا و أنظمتنا السياسية و الاقتصادية. هنا تكمن أهمية الفلسفة السياسية و الاقتصادية. الشعوب التي من دون فلسفة شعوب تائهة كشعوبنا بالضبط ,فرفضنا للفلسفة و العلم رفض للحضارة.
ديموقراطية رولز في مواجهة ديموقراطية نوزك
للديموقراطية مبادئ عدة تعرّفها منها : ضمان الحريات كحرية التصرف و التعبير و التفكير و حرية اختيار الفرد لعمله و حرية التملك إلخ، و الفصل ما بين العام و الخاص بحيث العام يُسأل الفرد عنه كعقود الفرد مع الآخر بينما الخاص لا يُسأل الفرد عنه كاعتقاده الديني أو إلحاده أو اعتقاده السياسي، و الفصل ما بين السلطات القضائية و التنفيذية و التشريعية للحد من تفرد بالسلطة و الاستبداد بها. و من مبادئ الديموقراطية أيضاً محدودية وقصر المدة الزمنية لحكم الرئيس و الحكومة، و انتخاب الشعب لرئيس البلاد و حكومته بشكل أو بآخر ، و استبدال الرئيس بآخر بحيث لا يجوز أن يبقى في الحكم لمدة طويلة تماما ً كما لا يجوز ذلك للحكومة ما يحد من إمكانية استبداد الحاكم أو استغلاله لمنصبه إلخ. لكن رغم هذه المبادئ المتفق عليها تتنوع الديموقراطية و تنقسم إلى ديموقراطيات مختلفة منها ديموقراطية الفقراء و ديموقراطية الأغنياء.
يحاول الفيلسوف جون رولز أن يوحّد بين الحرية و المساواة فيقدّم نظريته على أنها العدالة كإنصاف. يدعونا رولز إلى أن نتصوّر أنفسنا خلف حجاب يحجب عنا كل ما نعرف عن أنفسنا و الآخرين ، فلا نعرف مثلا ً إذا كنا فقراء أم أغنياء . و المطلوب منا أن نختار المبادئ التي تحكمنا و تشكل مصائرنا. في هذا الاختبار النظري يبدو أن كل فرد منا سوف يختار أولا ً مبدأ الحريات الأساسية كحرية المعتقد و التعبير و التصرف لأننا طبعا ً لا نرغب في أن نكون عبيدا ً للآخرين . ومن ثم سنختار ثانيا ً مبدأ المساواة في الفرص و أن تكون اللامساواة الاقتصادية و الاجتماعية مبررة فقط في حال أنها موجهة نحو إفادة الأقل حظا ً من بيننا كالفقراء . هكذا هذه الديموقراطية هي ديموقراطية الفقراء. فمثلا ً، بالنسبة إلى رولز، لا بد من بناء المؤسسات بحيث يستفيد منها الفقراء و الضعفاء في المجتمع. وسوف نختار هذا المبدأ الثاني لأننا لا نعلم في الاختبار النظري السابق ما هو وضعنا في المجتمع فلا نعرف ما إذا كنا أغنياء أم فقراء، و بذلك لابد من أننا سنوافق على المبدأ الثاني الذي يفيد الفقراء و الضعفاء لأنه من الممكن أن نكون من بينهم. يضيف رولز : بما أننا نوافق على هذين المبدأين، إذن هما مقبولان من أجل تشكيل ديموقراطيتنا المنشودة. و من ثم يؤكد رولزعلى أسبقية المبدأ الأول ( أي مبدأ الحريات ) و أولوية تحققه لأننا نختاره أولا ً John Rawls : A Theory of Justice. Revised Edition 1999.) Belknap Press of Harvard University Press ) .
لكن كما تشير الآداب الفلسفية نظرية رولز تعاني من مشكلة تواجه معظم النظريات الاشتراكية أو شبه الاشتراكية ألا وهي المشكلة التالية : إذا كانت المؤسسات لا بد أن تبنَى بحيث يستفيد منها الفقراء و الأقل حظا ً في المجتمع، فهذا يتضمن خرق حرية تصرف الأغنياء بما يملكون. فمؤسسات الأغنياء لا بد أن تتوجه لخدمة طبقة الفقراء و الأتعس حظا ً، و بذلك يتم تقييد حرية تصرف أصحاب المؤسسات فيما يملكون. فقد يرغبون في خدمة طبقات أخرى كالطبقة الوسطى أو طبقتهم بالذات، و قد يرغبون في خدمة العلوم المجردة التي لا نستفيد منها اليوم عمليا ً كتطوير الأبحاث في نظرية الأوتار العلمية أو الرياضيات المجردة. هكذا تخرق نظرية رولز حقا ً أساسيا ً ألا وهو حرية تصرف الفرد بما يملك.
أما الفيلسوف روبرت نوزك فيقدِّم ديموقراطية معارضة لديموقراطية جون رولز، و من الممكن تسميتها بديموقراطية الأغنياء. فبينما ديموقراطية رولز يستفيد منها الأفقر و الأقل حظا ً وبذلك هي ديموقراطية الفقراء، ديموقراطية نوزك يستفيد منها الأغنى و الأكثر حظا ً و لذا هي ديموقراطية الأغنياء. يضع روبرت نوزك مبادئ للعدالة كمبدأ اكتساب الأشياء و مبدأ تبادلها. و تفصيل هذه المبادئ هو التالي: لكل فرد الحق في امتلاك ما يصنع و يفعل كما لديه الحق في امتلاك الأشياء التي يحسّـنها أو يجعلها صالحة و لم تكن ملك أحد من قبله. و لكل فرد حق في أن يعطي للآخرين ما يملك أو بعضا ً مما يملك؛ فلكل إنسان حرية اختيار ما يفعل بما يملك. كما لكل شخص حق مطلق في أن يكون حرا ً من تسلط الآخرين أو الدولة، وحق مطلق في أن يكتسب الأشياء و يمتلكها أو يقدمها لآخرين شرط أن لا يخرق حقوق الآخر. هذا لأن لكل شخص حقا ً فيما يملك من مواهب و قدرات، وبذلك له حق في امتلاك ما يفعل و يصنع و يكتسب أو يشتري بمجهوده أكان ذلك من خلال مساعدة الآخرين له أو من خلال الصدفة أو الحظ . على هذا الأساس، يشرِّع نوزك الميراث؛ فلكل فرد حق في أن يورِّث ما يشاء من ملكه لمن يشاء (Robert Nozick : Anarchy, State , and Utopia. 1974. Basic Books ) .
يضيف نوزك أن أي توزيع للثروة في المجتمع هو توزيع عادل فقط في حال لهذا التوزيع تاريخ مقبول بحيث يحدث هذا التوزيع للثروة على ضوء حقوق أو قوانين الاكتساب و التبادل المذكورة سابقا ً. من هنا ، من الخطأ إعادة توزيع الثروة و إلا يتم خرق حقوق الأفراد. بالنسبة إلى نوزك ، توزيع الثروة في المجتمع الحر يتم و يجب أن يتم من خلال التبادل الحر بين الأفراد لما يملكون. و بذلك إذا كانت الثروة غير موزّعة بالتساوي بين الأفراد فهذا لا يدل على لا عدالة النظام السياسي و الاجتماعي في حال مراعاة حقوق الأفراد في التملك و التصرف بحرية فيما يملكون. يؤكد نوزك على موقفه قائلا ً : من غير المقبول استخدام أي فرد من أجل تحقيق مصالح الآخرين ؛ فلا يوجد مجتمع مجرد و متعالٍ و مختلف عن أفراده كي نضحي بهذا الفرد أو ذاك من أجله ( المرجع السابق). لكن هذه الديموقراطية التي يدافع عنها روبرت نوزك تخرق حق الفقراء و الأضعف حظا ً في الاستفادة من مجتمعاتهم و في العيش الكريم. هذا لأنها تقبل باللامساواة في توزيع الثروة و تدافع فقط عن حقوق التملك و الاكتساب و التبادل و بذلك يستفيد منها فقط الأغنياء و الأكثر حظا ً.
العدالة الواقعية في مواجهة العدالة المثالية
ينتقد الفيلسوف مايكل ساندل فلسفة رولز بشدة. يقول إن الفرد متجذر في مجتمعه. فنحن نكتسب هويتنا من خلال مجتمعنا. و بذلك لا يوجد أفراد خارج المجتمع لأن صفاتهم وهوياتهم تتشكّل على ضوء تأثرهم بمجتمعهم وتفاعلهم معه. فالإنسان بنيان يبنيه الآخرون فلا يوجد من دونهم و بذلك يستحيل تخيله خاليا ً من تربيته و ثقافته و إنتماءاته الاجتماعية على نقيض مما يصوره رولز.من هنا، حسب ساندل، يخطئ رولز حين يدعونا إلى تخيل الأفراد خلف حجاب يحجب عنهم ذواتهم و مجتمعاتهم من أجل أن يقرروا ما النظام السياسي و الاقتصادي الأفضل. دعوة رولز هذه مثالية وخيالية إلى أقصى حد لأنه من غير الممكن جعل الأفراد خالين من أنفسهم و جماعاتهم؛ فلا وجود لفرد خارج مجتمعه وثقافته. يضيف ساندل قائلا ً: بما أن الفرد جزء لا يتجزأ من جماعته، إذن لا نستطيع معرفة واجباته الأخلاقية والسياسية سوى من خلال مفاهيم و مبادئ التماسك الاجتماعي و الوفاء و الانتماء الاجتماعي. على هذا الأساس، يعتبر ساندل أن النظام العادل هو المعني بتحقيق الفضائل الاجتماعية و ازدهارها. من هذه الفضائل واجبات الفرد تجاه أسرته و جماعته و وطنه و أمته. لذا من غير الممكن للمجتمع العادل أن يكون حياديا ً في الحكم على المسائل الأخلاقية، و عليه أن يحقق الحياة الجيدة والكريمة من خلال نشر الفضائل. كما على المجتمع أن يتفق على ما هي الحياة الجيدة والكريمة وما هي الفضائل التي يجب أن يتحلى بها و يهدف إلى تحقيقها. رغم ذلك يحدّد ساندل بعض الفضائل التي يحتاج إليها المجتمع العادل والخيّر منها: التضحية من أجل الخير العام ( كالخدمة الإجبارية في الجيش ) و تقليل اللامساواة في المجتمع من خلال مثلا ً الضريبة الإجبارية من أجل إعادة بناء المؤسسات العامة. بالنسبة إلى ساندل، بما أن الفرد لا يوجد إلا ضمن مجتمع و لا تتحدد هويته إلا من قبل مجتمعه، إذن الحفاظ على حقوق الفرد و حرياته لا يتم سوى من خلال جعل النظام العادل ينمو على ضوء الفضائل الاجتماعية كفضائل العناية بالأسرة و الجماعة وفضيلة الانتماء الاجتماعي و الوطني بدلا ً من أن يكون نظاما ً متخيلا ً من قبل هذا الفيلسوف أو ذاكMichael Sandel:) Justice: What's the Right Thing to Do? 2009. Farrar, Straus, and Giroux).
من منطلق الابتعاد عن المثالية و الاقتراب من الواقعية أيضا ً, يصر عالِم الرياضيات و الاقتصاد الفيلسوف الحائز على جائزة نوبل " أمارتيا سن" على أنه لا يوجد مبدأ عام على أساسه نستطيع أن نستنتج بحق العدالة التي لابد أن تهدينا في سلوكياتنا. فتسليمنا بأننا نتمكن من مقارنة المجتمعات غير العادلة بمجتمع مثالي و كامل في عدالته تسليم خاطئ. و لذا من غير الصواب التفكير في ما هي المؤسسات المثالية و كيف يجب أن نبنيها. هكذا ينفي " أمارتيا سن" أهمية إنشاء نظرية مثالية تعبّر عن فحوى العدالة ومحتوى النظام الأفضل. من هنا, يعتمد "سن" و يدعو إلى الاعتماد على منهج مقارن وظيفته مقارنة المجتمعات بمجتمعات أخرى واقعية و ممكنة بدلا ً من مقارنتها بالمجتمع أو النظام المثالي. يقول إننا لا نحتاج إلى معرفة ما هو النظام السياسي و الاجتماعي المثالي لكي نعلم مثلا ً أننا سنحيا بشكل أفضل إذا رفضنا العبودية و أزلناها. على هذا الأساس, ينتقد "سن" النظريات الفلسفية السياسية كنظريتي رولز و نوزك التي تحاول تعريف النظام السياسي و الاقتصادي المثالي و وصفه. بالنسبة إليه, بدلا ً من محاولة القيام بذلك علينا أن نكون واقعيين فنهتم بإزالة اللاعدالة القائمة في هذه الحالات الواقعية أو تلك. لذا يستغني " سن " عن صياغة نظرية فلسفية ترينا ما النظام الأفضل, و بدلا ً من ذلك يؤكد على أن محاولة تحقيق العدالة لا تكمن في بناء نظريات تصف المجتمع المثالي و المؤسسات المثالية التي لا بد من إنشائها. بل العدالة كامنة في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل من خلال تصحيح تجليات اللاعدالة في المجتمع (Amartya Sen: the Idea of Justice. 2009.
.(Harvard University Press
معظم الفلاسفة يبحثون عن المبادئ والمؤسسات و العقود الاجتماعية الضرورية لوجود مجتمع مثالي في عدالته. لكن "سن" ينتقد هذا الاتجاه متهما ً إياه بكونه مثاليا ً و خياليا ً للغاية؛ فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيق المجتمع المثالي فعلا ً. يضيف قائلا ً إن المجتمع يتكوّن من أفراد حقيقيين غير قادرين على الاتفاق على مجموعة مبادئ و مؤسسات مثالية ونهائية. لذا البحث عن تلك المبادئ و المؤسسات المثالية بحث غير مجدي. كما أن هذا السعي إلى اكتشاف النظام المثالي يبعدنا عن معالجة اللاعدالة الحالية و الواقعية في حياتنا كالاهتمام بحق النساء في التعلم في العالم النامي أو التصرف تجاه حلّ مشاكل البيئة والتغير المناخي. من هنا يستنتج "سن" أن العدالة لابد أن تكون تقارنية بحيث تدرس أنواع الحياة التي من الممكن واقعيا ً للناس أن تحياها. فمثلا ً، القضاء على العبودية أو إعطاء النساء الحق في الانتخاب يسمح للناس أن يحيوا أحرارا ً على ضوء ما يقررون من دون خلق مجتمع مثالي في عدالته. باختصار, يرفض "سن" التفكير المتعالي حول ما هي العدالة المثالية و النظام الأفضل و يدعونا إلى التركيز على تطوير العدالة في المجتمعات الواقعية الحقيقية التي نحيا فيها بدلا ً من التفلسف حول المبادئ الأمثل و الأفضل. فعندما يطالب البشر في كل أنحاء العالم أن تتحقق العدالة العالمية هم لا يطالبون بعالم مثالي في عدالته بل هم يرغبون في القضاء على بعض الاتفاقيات أو الحالات الاجتماعية والاقتصادية غير العادلة. هكذا يدعونا "سن" إلى الابتعاد عن المتخيل و الاقتراب من الواقع (المرجع السابق).
لكن مشكلة هذا الموقف هي أننا نحتاج إلى نظرية حول ما هي العدالة و المبادئ الأمثل و الأفضل لكي ندرك ما إذا كانت هذه الحالة الواقعية أو تلك هي حالة غير عادلة كما نحتاج إلى نظرية في العدالة و النظام الأفضل لكي نعلم من خلالها كيف من الممكن إصلاح حالات اللاعدالة و تحويلها إلى حالات عادلة. من هنا، لا مفر من بناء نظرية في العدالة وتعريف مبادئ النظام المثالي لأن من دون تلك النظرية و ذاك التعريف لن نعرف ما الحالات غير العادلة و لن نعرف كيف نصححها و نجعلها عادلة. لذا لا خلاص لنا من العودة إلى الصراع الكلاسيكي بين اليمين و اليسار.
صراع اليمين و اليسار ونشوء السوبر ليبرالية
تعتبر الليبرالية التقليدية أن ضمان الحريات لابد أن يكون أولوية أي نظام عادل و مقبول. أما اليسار المناقض لهذا المذهب الليبرالي فيقول إن الأولوية لابد أن تكون لتحقيق المساواة الاقتصادية و الاجتماعية أو المساواة في الفرص و إتاحتها للجميع. هكذا الصراع بين اليمين المتمثل باليبرالية التقليدية واليسار المتمثل بالشيوعية أو الاشتراكية صراع حول ما هي المبادئ التي لابد من اعتبارها أولوية بحيث يسعى النظام المطلوب إلى تحقيقها أولا ً و الدفاع عنها وتمتينها وتطويرها. تؤكد الليبرالية على ان الأولوية لابد أن تكون للحريات لأن الحرية جوهر الإنسان فمن دونها يخسر الإنسان إنسانيته؛ الحرية قيمة بحد ذاتها و بذلك من الخطـأ التضحية بها لتحقيق أي هدف آخر مهما كان صائبا ً أو مفيدا ً. أما الاتجاه اليساري فيعتبر أن الحريات لا تتحقق فعلا ً من دون مساواة بين الجميع لأنه إذا بدأنا بصناعة مجتمع من دون مساواة بين أفراده سوف يكتسب الأغنى و الأقوى حريات أكبر و أكثر من حريات الأفقر و الأضعف. من هنا يقول المذهب اليساري إن المساواة الاجتماعية و الاقتصادية تضمن الحريات كافة، ولذا لابد أن تكون الأولوية لنشر المساواة التي سوف تؤدي لا محالة إلى الحريات المنشودة Jan Narveson and James Sterba: Are Liberty) .(and Equality compatible? 2010. Cambridge University Press
السؤال الأساسي هو: هل من الممكن الجمع بين الحرية و المساواة؟ بكلام آخر, هل ثمة تعارض و صراع بين الحرية والمساواة بحيث يستحيل وجودهما معا ً في المجتمع نفسه؟ يناقش هذه المسألة كل من الفيلسوفين نارفيسن و ستيربا. رغم اتفاقهما على أن الحرية تكمن في تحديد الفرد لأهدافه و سعيه نحو تحقيقها بالوسائل التي يختارها شرط أن لا يؤثر سلبيا ً على حرية الآخرين، يختلف كل منهما حول قضية انسجام الحرية و المساواة أو عدم انسجامهما. بالنسبة إلى نارفيسن, يستحيل أن تجتمع الحرية و المساواة في الوقت نفسه لتعارضهما. هذا لأنه متى أقمنا المساواة بين الجميع بفضل إعادة توزيع الثروة من خلال أخذ ما يملكه الغني وتقديمه للفقير سنخرق حينها حق الغني في التصرف الحر بما يملك. أما بالنسبة إلى ستيربا، الجمع بين الحرية و المساواة ممكنة, بل الحرية تستلزم المساواة. هذا لأن المساواة ضرورية لتحقيق حرية الفقراء؛ فمن دون نوع ما من المساواة في المجتمع سوف لا يملك الفقير و الضعيف شيئا ً و بذلك سيخسر القدرة على التصرف بحرية من جراء فقره. و هذا أساس الصراع بين اليمين و اليسار؛ فموقف نارفيسن موقف يميني بينما موقف ستيربا موقف يساري. يعتبر ستيربا أن للفرد حقا ً في امتلاك شيء ما فقط إذا كان امتلاكه هذا لا يمنع الآخرين من إشباع احتياجاتهم الأساسية. و من الاحتياجات الأساسية: الطعام و المسكن و الطبابة و الحماية و تطوير الذات. و في نظامه العادل لابد من إعادة توزيع الثروة بشكل ما بحيث كل فرد له الحق في استخدام الموارد لاشباع حاجاته الأساسية ما يكفل حياة شريفة لكل الأفراد. هذا لا يعارض حرية الأفراد بل يضمن لهم البقاء فحق أن يكونوا أحرارا ً. من هنا يستنتج ستيربا أنه من الممكن كما من الضروري الجمع بين المساواة و الحرية. أما الصدقة المعتمدة على قراراتنا الحرة فهي طريق من طرق إعادة توزيع الثروة المطلوبة في المجتمع العادل بالنسبة إلى ستيربا. لكن نارفيسن يرفض أي نوع من المساواة في امتلاك الموارد بين الأفراد على نقيض مما يدعو ستيربا. وفقط الصدقة المعتمدة على قرار الفرد الحر مقبولة في النظام العادل بالنسبة إليه. ويقول إن لكل فرد حقا ً في امتلاك نفسه و امتلاك الأشياء غير المملوكة من أحد أو امتلاك الأشياء من خلال التبادل الحر. و أي إعادة توزيع للثروة من خلال مبادئ معينة مُلزمة للجميع ستقضي على حرية الأفراد في التصرف بما يملكون. لذا بالنسبة إلى نارفيسن من غير الممكن الجمع بين الحرية والمساواة (المرجع السابق).
هذا الخلاف لا ينتهي بين اليمين واليسار, و من غير الممكن أن يتم حسمه لأنه خلاف حول ما نفضّل. فما نفضّل يختلف من فرد و زمن إلى آخر، و لذا يستحيل علينا أن نتفق على ما هو النظام السياسي و الاقتصادي الأفضل كما يؤكد الفيلسوف "سن". فتُتهم الليبرالية اليمينية بأنها تميز بين البشر فلا تعاملهم بالتساوي لكونها طبقية بامتياز بمعنى أنها تفضّل طبقة على أخرى. يقول نقاد هذا النظام أنه نظام ظالم يفضّل طبقة الأغنياء على طبقة الفقراء لأنه لا يدعو إلى المساواة بين الطبقتين و بدلا ً من ذلك يهتم فقط بالحفاظ على حرية السلوك و التفكير. كما يُتهم اليسار بأنه يلغي الحريات من جراء تركيزه على إعادة توزيع الثروة على الفقراء و الضعفاء من خلال مصادرة مال و أملاك الطبقة الأغنى. يقول نقّاد هذا النظام أنه يقيّد حرية الأفراد ويقضي على حرية الغني بالتصرف كما يريد بماله و ملكه كما يمنع الفقير من إمكانية أن يصبح غنيا ً. رغم كل ذلك من الضروري أن نفكر بما هو ممكن كأن نحاول صياغة إمكانية الخروج من المذهبين الليبرالي و اليساري. فالتفكير من خلال ما هو ممكن جوهر البحث المعرفي و إلا نبقى سجناء أقوال الآخرين أو أقوالنا بالذات. على هذا الأساس, من الممكن تركيب فكرة جديدة هي السوبر ليبرالية في محاولة طرح فلسفة سياسية جديدة.
بالنسبة إلى السوبر ليبرالية, من غير المحدّد ما هي المبادئ التي لابد أن تتخذ صفة الأولوية. ولذا يحدث الخلاف بين الناس حول ما هي المبادئ الأولوية التي لابد من الحفاظ عليها أولا ً في النظام الأفضل, و لذا أيضا ً نفتقد إلى أية آلية فكرية قادرة على حل هذا الخلاف. هكذا تفسّر فلسفة السوبر ليبرالية لماذا يحصل الخلاف السياسي بيننا و لا نتمكن من حله. من هنا تكتسب السوبر ليبرالية قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. تعتبر السوبر ليبرالية أن الأولوية غير محدّدة في الحقيقة لأنها تعتمد أصلاً على ما نفضله شخصيا ً. فتفضيل الحريات على المساواة أو العكس تفضيل شخصي يتشكّل على ضوء تربيتنا الثقافية و يعتمد على قرارنا الشخصي. وبما أن السوبر ليبرالية تؤكد على أنه من غير المحدّد ما إذا كانت الحريات أم المساواة بين الناس هي المبدأ الأولوي و الأهم و الأفضل, إذن تترك للناس حرية اختيار أولوية مبادئ الحرية أو أولوية مبادئ المساواة كما تسمح لهم بحرية الانتقال من اختيار أولوية معينة إلى اختيار أولوية أخرى و استبدال أولوية بأخرى. من هنا تكتسب السوبر ليبرالية مقبوليتها لكونها تحقق حرية أكبر للجميع. على الأرجح يبدو أن النظام الأفضل هو الذي يتيح للمجتمع اختيار ما هي أولوياته بحرية و استبدالها وتغييرها متى شاء. السوبر ليبرالية لا تفضّل مبادئ على أخرى, و لذا هي تعبير صادق عن السوبر حرية التي تضمن حرية اختيار النظام الأفضل كما تضمن حرية تغيير النظام متى تغيرت أولوياتنا. فما هو أولوي يتغير من زمن إلى آخر حسب الظروف الاقتصادية و الاجتماعية, و بذلك يجب عدم تحديد الأولويات بشكل حاسم و نهائي, و هذا ما تتمكن السوبر ليبرالية من التعبير عنه. على هذا الأساس, النظام السوبر ليبرالي غير ثابت فلا ماهية محدّدة له لأنه يفسح في المجال أمام تغيير أولوياتنا و استبدالها الدائم. هكذا نضمن ضرورة مشاركة الجميع في عملية تشكيل النظام السياسي و الاقتصادي كما نضمن تحررنا من هذا النظام المحدّد أو ذاك.
تقول السوبر ليبرالية إن العدالة تتمثل في أن تكون أولوية المبادئ غير محدّدة لأن لا محدديتها ترسّخ حرية اختيار المبادئ و النظام من قبل الشعب على ضوء احتياجاته. فالمحدّد مسجون في محدديته بينما اللامحدّد طريق الحرية؛ فعندما نكون غير محددين نكتسب حرية تحديد أنفسنا. كل هذا يتفق مع السوبر حداثة؛ فالسوبر ليبرالية نتيجة مباشرة للسوبر حداثة. بالنسبة إلى السوبرحداثة, اللامحدد يحكم العالم. تعتبر السوبر حداثة أن كل الكون غير محدّد في حقائقه و ظواهره و رغم ذلك من الممكن معرفته لأن من خلال لا محدديته من الممكن تفسيره. من هنا, من الطبيعي أن يكون النظام الأفضل هو النظام غير المحدّد في أولوياته كما تؤكد السوبر ليبرالية بالضبط. ومن خلال لا محدديته نضمن حرية أكبر للأفراد والمجتمع و بذلك تجمع السوبر ليبرالية بين لامحددية النظام و حرية الأفراد تماما ً كما تجمع السوبر حداثة بين لا محددية العالم و إمكانية المعرفة. فمثلاً , في زمن الانهيار الاقتصادي يبدو أن إعادة توزيع الثروة بأسلوب ما هي الأولوية لإنقاذ الأفقر المتضررين أكثر بينما في زمن الازدهار الاقتصادي المستفاد منه الجميع في المجتمع تبدو الأولوية للحريات.هكذا تمكنا السوبر ليبرالية من تغيير أولوياتنا حسب ظروفنا , و ذلك من خلال اعتبارها أنه من غير المحدّد ما هو النظام الأفضل و ما هي الأولويات الأمثل.