ثمة سيرورات أو مضامين نفسية أخرى
تواجه صعوبة اكبر في الدلوف إلى الشعور. ولا مفر من أن تُستنتج وتُكتشف
ويُعثر لها على ترجمتها الشعورية. ولها تحديداً نحتفظ باسم اللاشعور
بحصر المعنى. اننا نعزو إذن إلى السيروات النفسية كيفيات ثلاثاً: فهي
إما شعورية وأما قبشعورية وإما لا شعورية. والتمييز الذي يمكن ان يصير
شعورياً، بلا تدخل من قبلنا. واللاشعوري يمكن أن يصبح، بفضل جهودنا،
شعورياً، وكثيراً ما يتراءى لنا في هذه الحال أنه يتعين علينا، للوصول
إلى ذلك، التغلب على مقاومات بالغة الشدة. وعندما نقوم بهذه المحاولة
على شخص آخر يخلق بنا أن نتذكر أنه لا يكفينا ان نردم فجوات إدراكاته،
واننا إذ نتيح له ان يعيد بناء الأحداث لا نكون أفلحنا بالضرورة في تحويل
المواد اللاشعورية المعينة عنده إلى مواد شعورية. والحق ان هذا المضمون
يكون مزدوج التثبيت في نفسيته، أولا في إعادة البناء الشعوري الذي أتحناه
له، وثانياً في الشكل البدائي اللاشعوري. وبمواصلتنا مجهودنا نتوصل في
العادة إلى تحويل المضمون اللاشعوري إلى مضمون شعوري، فيتطابق عندئذ
التثبيتان. وتتيح لنا شدة جهودنا أن نقيس المقاومة التي تعترض سبيل التحول
إلى الشعور والتي تتفاوت من حالة إلى أخرى. كذلك فإن النتيجة التي نظفر
بها بعد لأي في أثناء العلاج التحيلي يمكن أن تحدث بصورة تلقائية أيضاً،
وذلك عندما ينقلب أحياناً مضمون لاشعوري في العادة إلى مضمون قبشعوري
ثم يصبح شعورياً، وهذا ما يحدث في الحالات الذهانية على نطاق واسع. ومن
ذلك نستنتج ان بقاء بعض المقاومات الداخلية هو واحد من شروط الحالة السوية.
وفي أثناء النوم بصفة عامة ترتفع المقاومات ويندفع بنتيجة ارتفاعها المضمون
اللاشعوري، فتتاح بالتالي للأحلام إمكانية التكون. وعلى العكس من ذلك،
قد يحدث ان يبقى المضمون القبشعوري بعيد المنال لأمد من الزمن، إذ تعترض
بعض المقاومات سبيل تحوله إلى الشعور، كما في حالة النسيان العابر (الهفوات).
وكذلك قد ترتد الفكرة القبشعورية بصورة مؤقتة إلى الحالة اللاشعورية،
وذلك هو شرط النكتة فيما يبدو. وسوف نرى ان هذا الضرب من ارتداد المضامين
(أو السيرورات) إلى الحالة اللاشعورية يلعب دوراً هاماً في نشوء الأمراض
العصابية.
ان نظرية الكيفيات الثلاث النفسية
تبدو، في هذا الشكل العام والمبسط الذي قدمناها به، وكأنها عامل تشويش
للأشياء لا عامل توضيح. بيد أنه يخلق بنا ألا ننسى أنها ليست نظرية بحصر
المعنى، بل هي مجرد تقرير أولي عن وقائع مشاهدة، يسعى لا إلى تفسير هذه
الوقائع، بل إلى الإحاطة بها عن أقرب قرب ممكن. ومن شأن، التعقيدات التي
تتكشف لنا على هذا النحو ان تظهر للعيان كثرة العقبات التي تتعثر بها
أبحاثنا. على أن كل شيء يحملنا على الاعتقاد ان معرفة العلاقات التي
تقوم بين كيفيات النفسية وبين أقاليم الجهاز النفسي أو هيئاته التي نصادر
على وجودها ستتيح لنا فهماً افضل للأشياء، وان تكن هذه العلاقات بعيدة
بدورها عن البساطة.
ان فعل الشعور يتعلق قبل كل شيء بالادراكات
التي تتلقاها أعضاء حواسنا من الخارج. هذه الظاهرة تحدث إذن، من وجهة
النظر الطوبوغرافية، في الطبقة اللحائية الأكثر خارجية من الأنا. ونحن
لا ننكر ان بعض المعلومات الشعورية تأتينا أيضاً من داخل جسمنا، وتتمثل
بالمشاعر التي لها على حياتنا النفسية تأثير اعظم وقعاً بعد من الادراكات
الخارجية. وأخيراً تصدر عن أعضاء الحواس، في ظروف شتى، علاوة على إدراكاتها
الخاصة بها، مشاعر وأحاسيس مؤلمة. وهذه الانطباعات، كما نسميها تمييزاً
لها عن الادراكات الشعورية، تنبعث أيضاً من أعضائنا الطرفية. والحال
اننا نعتبر هذه الأعضاء استطالات لتشعبات الطبقة اللحائية، الأمر الذي
يتيح لنا ان نتمسك بوجهة النظر التي تقدم بيانها. وحسبنا ان نقول ان
الجسم عينه ينوب مناب العالم الخارجي بالنسبة إلى الأعضاء الطرفية، المستقبلية
للأحاسيس والمشاعر.
لكم كان الأمر سيبدو بسيطاً لو أمكن
لنا ان نعين موقع السيرورات الشعورية في محيط الأنا، وموقع كل الباقي
اللاشعوري في الأنا، وربما كان هذا واقع الحال لدى الحيوانات؛ غير ان
الأمور اكثر تعقيداً لدى الإنسان بالنظر إلى وجود عمليات باطنة في الأنا
قابلة أيضاً لان تغدو شعورية. واللغة هي التي تتيح إمكانية إقامة ارتباط
وثيق بين مضامين الأنا والبقايا الذاكرية من الادراكات البصرية وعلى
الأخص السمعية. ومن هنا يكون المحيط الادراكي للطبقة اللحائية قابلاً
للتنبيه، من الداخل، على نطاق أوسع بكثير. ومن الممكن أيضاً لبعض السيرورات
الباطنة، نظير تيارات التمثلات والسيرورات التفكيرية، ان تغدو شعورية.
ولذلك يقوم جهاز خاص يوكل إليه التمييز بين الاحتمالين. وهو الذي يتولج
بما نسميه امتحان الواقعية. وبذلك تبطل معادلة الإدراك- الواقع
(العالم الخارجي). كما ان الأخطاء، التي تحدث من الآن فصاعداً بيسر وسهولة،
والتي لا يكاد يخلو منها في العادة حلم، تسمى بالهلوسات.
ان كيفية داخل الأنا، الذي يحتوي
في المقام الأول، على السيرورات التفكيرية، هي القبشعور. والقبشعور سمة
مميزة للأنا وموقوفة عليه حصراً. على أنه يصح الافتراض بأن الارتباط
بالآثار الذاكرية للكلام هو شرط الحالة القبشعورية، فهذه الحالة مستقلة
بالأحرى عن شرط كهذا، على الرغم من أن انشراط سيرورة ما بالكلام يتيح
لنا أن نستنتج على وجه اليقين ان هذه السيرورة من طبيعة قبشعورية. ان
الحالة القبشعورية، المتسمة من جانب أول بالقدرة على بلوغ الشعور، ومن
الجانب الثاني بارتباطها بالآثار الكلامية، لهي حالة خاصة لا تستنفد
هاتان الصفتان طبيعتها. وبرهاننا على ذلك ان أجزاء كبيرة من الأنا، وعلى
الأخص من الانا الأعلى، الذي لا يمكن أن ننكر عليه طابعه القبشعوري،
تبقى بالإجمال لاشعورية، بالمعنى الوصفي للكلمة. واننا لنجهل العلة التي
تعّين ان يكون الأمر كذلك، ولسوف نحاول فيما بعد أن نتصدى لمعضلة الطبيعة
الحقيقية للقبشعور.
اما اللاشعور فهو الكيفية الوحيدة
السائدة داخل الهذا. وتجمع بين الهذا واللاشعور روابط وثيقة مماثلة لتلك
التي تربط بين الانا والقبشعور، بل ان الرابط هنا اكثر حصرية. ولو القينا
نظرة استرجاعية على تاريخ فرد من الأفراد وعلى تاريخ جهازه النفسي، لتأتى
لنا ان نجري في الهذا تمييزاً هاماً ففي الأصل كان الهذا هو كل شيء.
وقد تطور الانا بدءاً من الهذا تحت التأثير المتصل للعالم الخارجي. وفي
أثناء هذا التطور الوئيد انتقلت بعض مضامين الهذا إلى الحالة القبشعورية،
فاندمجت على هذا النحو بالأنا. بينما بقيت مضامين أخرى بلا تغيير في
الهذا، فشكلت نواته التي يعسر النفاذ إليها. غير أن الانا الفتي والضعيف
نبذ إلى اللاشعور، في خلال هذا التطور، بعض المضامين التي سبق له ان
دمجها، وسلك المسلك عينه حيال انطباعات جديدة عدة كان في مقدوره استقبالها،
بحيث ما تسنى لهذه الانطباعات المنبوذة ان تخلف أثراً إلا في الهذا.
وإنما على هذا القسم من الهذا نطلق، بالنظر إلى أصله، اسم المكبوت،
ولا يتأتى لنا على الدوام أن نميز تمييزاً دقيقاً واضحاً بين هذين الضربين
في مضمون الهذا، وليس هذا بأمر ذي بال أصلاً، حسبنا ان نقول ان الهذا
يتضمن مضامين فطرية ووقائع مكتسبة في مجرى تطور الأنا.
نحن نسلم إذن بانقسام طوبوغرافي للجهاز
النفسي إلى أنا والى هذا، وهو انقسام يناظر كيفيتي القبشعور واللاشعور.
ونحن نعتقد أيضاً ان هاتين الكيفيتين هما مجرد مؤشر إلى الفارق وليستا
جوهره.
فما الطبيعة الحقيقية إذن للحالة
التي تتجلى في الهذا بكيفيتها اللاشعورية، وفي الانا بكيفيتها القبشعورية،
وما قوام هذا الاختلاف؟
اننا نقر بأننا لا ندري من الأمر
شيئاً، وليس ثمة سوى بصيص باهت يضيء الظلمات الدامسة لمعرفتنا.
فهنا على وجه التحديد نقترب من اللغز الحقيقي للظاهرات النفسية الذي
لم يجد حله بعد فجرياً على معطيات علوم طبيعية أخرى، نسلم بأن كمية معينة
من الطاقة تفعل فعلها في الحياة النفسية، ولكن لا تتوفر لنا أية قرائن
قمينة بأن تسمح لنا بمقارنة هذه الطاقة بغيرها. ويبدو أن الطاقة العصبية
أو النفسية توجد في شكلين: وأحدهما سهل الحركة، وثانيهما، على العكس،
مقيد. واننا لنتكلم عن توظيفات (investments) وعن توظيفات فائضة (surinvestments)
للمضامين النفسية، بل نذهب إلى حد الافتراض بأن كل "توظيف فائض"
يعين ضرباً من تركيب لسيرورات شتى، تتحول أثناءه الطاقة الحرة إلى طاقة
مقيدة. وعند هذا الحد تتوقف معرفتنا، لكننا نعتقد جازمين ان الفارق بين
الحالة اللاشعورية والحالة القبشعورية يرجع، بدوره، إلى علاقات دينامية
مماثلة، وهذا قمين بأن يفسر لماذا يمكن لإحدى الحالتين ان تتحول، تلقائياً
أو بجهودنا، إلى الأخرى.
لقد توصل العلم التحليلي، رغم كل
هذه الشكوك، إلى تقرير حقيقة واقعة جديدة. فقد أبان ان السيرورات التي
تدور في اللاشعور أو الهذا تخضع لقوانين مغايرة للقوانين التي تخضع لها
السيروارات التي تدور في الانا القبشعوري. ونحن نطلق على مجمل هذه القوانين
اسم السيرورة الأولية، بالتعارض مع السيرورة الثانوية التي تحكم ظاهرات
القبشعور أو الأنا. وعلى هذا، تكون دراسة الكيفيات النفسية قد أثبتت
في النهاية أنها ليست عقيمة كل العقم.