ترى من هو ذلك الرجل؟ تبدوعليه ملامح الأبهة والنفوذ! لابد أن أعرفه.. ولكن كيف؟!
سيادته الفارهة... سحنته المهيبة... تصرفاته... أناقته... كل شيء يؤكد أنه رجل غير عادي.
حدث هذا في نادي الشرق المعروف، الذي يقع في كبد مدينة دمشق.
هذا النادي لا يؤمه إلا علية القوم وأكابرهم، لأن تكاليف سهرة فيه تعادل راتب أو أجر موظف لعام كامل..
لم تكد تقف السيارة تماماً... أمام مدخل النادي، حتى كان واحدٌ من البوابين... يفتح للسيد الجليل.. باب السيارة الخلفي اليميني. إنه تقليد اعتاده كل صاحب سلطان.
انحنى البواب ماداً ذراعه اليسرى. باتجاه النادي... وكفه مبسوطة وهو يردد:
- شرفوا سيديّ... أهلاً وسهلاً ... تفضلوا.
وبينما البوّاب يتكلم، كان الزبون الدسم، يخرج ساقه ورأسه وجزءاً من جذعه الأيمن، لينزل من السيارة، وماكاد يكمل خروجه. حتى كانت كفه تمتد إلى البوّاب بورقة نقدية من فئة خمسمائة ليرة سورية، ويتكرّم عليه بنظرة، ومشروع ابتسامة مدروسة. حصل مقابلها على سيل من عبارات الشكر والتبجيل.
انضمّ بواب آخر، لمرافقة الرجل عبر المدخل... ثم اتخذ خدم آخرون أماكنهم على جانبي المدخل، كانوا أشبه بفرقة مراسم، متأهّبة لاستقبال الضيف الكبير، وراح هذا الأخير يوزع عليهم ورقات نقدية من الفئة نفسها التي قدمها للبواب الأول.. ولم ينسَ منحهم النظرات وهزات الرأس الخفيفة، ومشاريع الابتسامات غير الكاملة، والصمت.
بدا لي أنهم يعرفونه، وينتظرون قدومه، وما أثار دهشتي كونه وحيداً لا رفيق معه!
عندما أصبح داخل النادي، كان النادلون قد أسرعوا لاستقباله والترحيب الحار به.. ومرافقته إلى أن اتخذ مجلسه الخاص المحجوز له كالعادة، كما صرح بذلك أحدهم.
كان الرجل قليل الكلام، والابتسام.. وكان بخيلاً بحركاته والتفاتاته. يخرج غليونه، يدخن بصمت، بينما كفّاه تنوبان عن لسانه في التعبير عما يرغب ويشتهي، وأحياناً لا يبخل باستخدام رأسه نيابه عن لسانه.
وكان النُّدُل -وياللعجب- يترجمون لغته بدقة وتفوق، ويفهمونها تماماً.فهاهم يحضرون له طعامه المدروس بعناية.. إضافة إلى مقبلاته ومشروباته المفضلة؛ التي يتعامل معها برفق ولين ونعومة وبطء... كأنه يخشى أن يمسّها بسوء. هكذا يمضي سهرته وحيداً، وسط اهتمام بالغ من العاملين في النادي، الذين لا يكفون يحومون حوله كالنحل، طمعاً في رشفة رحيق من جيبه الجواد.
ما إن أنهى الرجل عشاءه، حتى طقطق بأصبعيه: الوسطى والإبهام... وسرعان ماقدمت له فاتورة الحساب على صحن. وسرعان ماوضع الرجل المبلغ المطلوب فيه، لكأنه درج عليه، أو لكأنه محسوب سلفاً بالنسبة إليه.. قال ولأول مرة:
-وزعوا الباقي فيما بينكم...
نهض... بينما كان أحد الندل يتبرع بتقويم سترته، والتأكد من حسن قيافته. سار الرجل بخطوات رزينة، لكأنه يمشي على البيض، بينما كان يشيّعه عدد من الشغيلة حتى غادر النادي، وأذناه تطنان بصدى عبارت الحمد والثناء والتبجيل.
ومرّت الأيام. وشاءت المصادفات أن ألبّي دعوة إلى مطعم العرّاد، الذي يتوسط نهر بردى، بعد قدسيّا.. غربيّ دمشق.
كانت دعوة إلى العشاء والسهرة على برنامج فني.
جلست وأصحاب الدعوة إلى طاولة، وبينما كنا نتبادل أطراف الحديث، كانت عيناي تستطلعان المكان ووجوه الزوار المتوافدين.
وفجأة توقفت نظراتي المترددة على وجهه. اتسعت حدقتا عينيّ، قلت في نفسي: "هل أكذب عينيّ؟!.. أنا في حلم أم في علم؟! أم هل يخلق من الشبه أربعين؟!"...
لاحظ صديقي الذي يجلس قبالتي، ماطرأ على وجهي من تغيّرات. سأل:
-مابك؟ ماذا هنالك؟
- لاشيء...
- وجهك يكذّبك!
- أشبّه على أحدهم...
- بسيطة...
لعله الشقيق التوءم، إنها لمفارقة لا معقولة.
في هذه اللحظة اقترب نادل من طاولتنا... ليسألنا حاجتنا... رأيت في النادل طرف الخيط يوصلني إلى غايتي... لن أدع هذه الفرصة التي طالما انتظرتها تفلت من بين يدي، لقد جاءني الحل على يديه وقدميه.
طلبت من النادل الاقتراب مني.. أعطاني أذنه وهو ينحني، سألته:
... من ذلك الشخص هناك؟! انظر بطرف عينك، لا تدعه يلاحظنا. وجه النادل عينيه بالاتجاه الذي أشرت إليه.. ثم نظر في وجهي وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى. قال:
- هل تعرفه؟
- أشبه عليه..
- إنه سليم السرحان..
أحسست أن النادل يود التهرب من فضولي، فنقدته ورقة من فئة مئة ليرة، وطمأنته.
-لن أفشي السرّ... لا غاية لي سوى الفضول.. نيتي سليمة.
- هنا عرفت أن النادل قد فهم قصدي. فقال:
- إنه هو....هو بشحمه ولحمه...
- وضح أكثر...
- إنه الرجل نفسه الذي تشاهده في ...
- نادي الشرق؟
- نعم.. في نادي الشرق.
- ياللغرابة!! غير معقول...
- صدقني... أنا لا أكذب.
- شكراً لك... لا بأس..
واستغرقت في المفارقة، ولم أشعر بالنادل كيف ابتعد، عدت إلى مراقبة الرجل... كان نشيطاً...خفيفاً، يتجول بين الطاولات، ينحني لهذا الزبون... يقدم الطلبات، يمسح الطاولات بأدب جم... ولباقة تليق بنادل محترف حقاً
عاد النادل. وتلاقت نظراتنا، غمزته، فانحني برأسه إلى جوار رأسي سألته:
.... ولكن لماذا؟ وكيف؟...
- سيدي! كثيرون سألوني، وكنت أسرد لهم الحكاية نفسها، كأني أسطوانة تكرر الأغنية نفسها، هذا الرجل قصته قصة ياسيدي إنه يعمل هنا منذ زمن طويل، إنه الشيف (رئيس النادلين)، ومع ذلك يقوم أحياناً بعمل النادل،.بمحض رغبته، إنه يحب عمله ويتقنه والجميع يشهدون له بالخبرة والتفوق وحسن التدبير والتعامل مع الزُّبُن.
سليم السرحان لم يتزوج حتى الآن، ولم يدخر قرشاً أبيض ولا أصفر... كل ذلك بسبب تلك "السوسة" (العادة) التي تسيطر عليه، تصور ياسيدي. كل مايجمعه خلال أسبوع ينفقه هناك في سهرة واحدة.. ينفقه على شخصيته الأخرى التي يعبدها.. ويصدقها، ويتمسك بها. إنه ممثل بارع يستأجر سيارة فخمة بسائقها، يقضي سهرة في نادي الشرق تليق بدوره كسيد آمر، هناك يتحول من خادم إلى مخدوم محترم، من رجل عادي إلى رجل غير عادي..ولو لبضع ساعات...يدفع ثمنها باهظاً.