...طال مرض الشيخ صالح...وطال انتظار أهل القرية لمعرفة النهاية المتوقعة لمرضه المتفاقم. قال أحدهم:
- الموت رحمة له ولعائلته...
قارب الشيخ صالح الثمانين من عمره، قضاها بالجدّ والدأب والسعي لتأمين حياة لائقة لأفراد أسرته، ونجح في توسيع رزقه وماله مع المحافظة على مايرضي الله، كان طيّب الخلق والسيرة، لطيف المعشر، راجح العقل.. حريصاً على حب ذوي القربى.. ومدّ يد المساعدة لهم عند الحاجة.
وكان الشيخ صالح لا يني يحدث أبناءه عن والده وأمه وجده وأصله وفصله، وحسبه ونسبه، ويقص سير أجداده وأمجاد عائلته.. وويوصي أبناءه بالاحتذاء بهم، والسير على منوالهم، ليكونوا جديرين بحمل اسم العائلة التي ينتمون إليها.
وللشيخ أبناء وبنات. تزوج كبارهم.. وبقي صغارهم تحت كنفه، كان الصغار حزينين لمرض الشيخ: والدهم..ينكبون على رعايته في أيامه الأخيرة، وكانت أمهم: زوجة الشيخ لا تفارقه...تسهر على راحته، وتستمع إلى كلماته وتمنياته الأخيرة..
وكان المتزوجون من أبنائه وبناته، يعودون كلّ يوم، ليطمئنوا على حاله ومآله..
كان الشيخ يحب النوم على فراش يبسط على الأرض...وكان يكره النوم على الأسرّة، ويكره كذلك النوم مع الآخرين سوى زوجته.
وفي غرفته الخاصة..قرب فراشهِ، الذي يتخذ إحدى زوايا الغرفة، ثمة صندوق مرصع لامع..متوسط الحجم، كان الشيخ شديد الحرص عليه..لا يفتحه أمام أحد من الناس، بمن فيهم أعضاء أسرته، وعرف عنه أنه كثيراً ما كان يقول:
- هذا الصندوق هو حصتي من إرث والدي، إنه من ريحة أبي المرحوم. ولم يسمح لأحد أن يسأله عن محتوياته، وكان الجميع يعرفون أن مثل هذا السؤال يثير غضبه ولومه.
وكان الشيخ صالح، يحكم إقفال منافذ غرفته، كلما يغادرها ولو لزمن قصير، زيادة في الحرصْ على صندوقه.
كنّته تكاد تنبعج من ضغط الفضول والجشع، لمعرفة مافي ذلك الصندوق كانت تقول لزوجها:
- لن يهنأ لي بال حتى أعرف حقيقة الكنز الذي يخفيه والدك عنك.. أكيد أن أمك تعرف الحقيقة، وكذلك إخوتك إلا أنت..
- حسبك ياامرأة "إن بعض الظن إثم".
فتعلق بصوت منخفض:
- متى سيستريح ويريحنا؟!
صهره راح يذكر ابنة الشيخ: زوجته:
- أتذكرين عبارته التي يكررها دائماً؟!
- أي عبارة؟!
- "خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود".
- أتعني...
- وهل لها معنى آخر... أكيد... صندوقه ملآن بالأصفر والأبيض.
- حصتنا ستصل إلينا... لن يأكلوا حقي
ويضحك الصهر ساخراً..يعلق.
- كم أنت طيبة...
- ماذا تريدني أن أفعل؟!
- أقيمي هناك..ابقي عند والدك الشيخ، حتى يقضي الله فيه قضاءه.
-كثيرون يسهرون على مرضه.
- أنت ابنته..أحق الناس بالعناية به، وأنت أقرب الناس إليه، وله عليك حق الرعاية في تلك المصيبة.
اشتد مرض الشيخ، وبات موته شبه مؤكد بين لحظة وأخرى.
فتوافد الأقرباء..والمعارف..وغص المكان..داخل البيت وخارجه بالناس..يروحون ويجيئون تباعاً..إلى أن أعلن نبأ موت الشيخ على الملأ.
الابن طلب من زوجته البقاء في غرفة الشيخ.
البنت سمعت نصيحة زوجها، وبقيت في غرفة الشيخ.
كانت القرية تشيع الشيخ صالح إلى مثواه الأخير، في مقبرة العائلة. وكانت ابنة الشيخ وكنّته تراقبان الصندوق، وتراقب كل منهما الأخرى وتحصيان الداخل والخارج إليها ومنها.
استمرت الحال أسبوعاً، جرى في نهايته تأبين للشيخ شاركت فيه القرى المجاورة.
وخلال ذلك الأسبوع، تهامس البعض حول الميراث، ومصير الصندوق، وحقيقة محتوياته.. وكمّيتها، وتداولوا حول كيفية تقاسمها بين مستحقيها من الورثة، وأهم ماكانت الكنّة تسأل عنه هو مفتاح الصندوق: "أين هو ياترى؟!" وتساءل الصهر: "إذا كان لا يتخلى عن المفتاح لحظة واحدة..فمن الذي يكون قد أخذه..واحتفظ به؟!"
قالت الكنة: ربما كان مع حماتي.
وقال الصهر لزوجته: عينك على الصندوق..قد يسرقه أحدهم ونحن لا نعرف من حصل على المفتاح.
إبان الأسبوع، اجتمع كل من له شأن ومصلحة في الميراث من أهل بيت الشيخ صالح، وترحموا عليه، وقرؤوا الفاتحة على روحه الطاهرة وعددوا صفاته ومناقبه، وتذكروا آخر أعماله الطيبة.
نظرت زوجة الشيخ في وجوه الحاضرين جميعاً.. وطلبت نهم الإنصات لما ستقول... فسكت الجميع، وتحفزت أعصابهم وحواسهم لسماع كلامها، وافتتاح ندوة الميراث.
كانت الأم تدرك حقيقة مايفكر به كل واحدٍ منهم..فبادرتهم بالقول:
- كلكم راغبون في بحث مشكلة الميراث.. اطمئنوا كلُّ سيأخذ حقه الذي يقرره الشرع والدين...
- وماذا عن الصندوق؟!
وتوالت الاستفسارات:
- الصندوق؟
- نعم..حقاً..الصندوق..علينا أن نفتحه ونتقاسم مافيه.
- قال الصهر: ولكن أين المفتاح؟!
لم يجبْ أحد عن ذلك السؤال. فكرر الصهر:
- المفتاح مع من؟
لزم الجميع الصمت ثانية.. وبدأ الشك يرتسم على وجوه الحاضرين كلٌّ حيال الآخر... ثم توالت الانكارات من الورثة:
- لماذا أنا؟!
- لست أنا
- لا أدري...
ولاحظت الكنة:
- هذه لا تحتاج إلى ذكاء.
والتفتت بنظرها إلى حماتها وهي تستطرد:
- معروفة.. الرجل لا يعطي سره إلا لزوجته، معقول أن يعطي المفتاح لأحد غيرها!!
وانصبت نظرات الحضور على وجه زوجة الشيخ صالح، فارتبكت وهي تحلف:
- لا...والله العظيم لا أعرف أين هو؟..لم يعطني المفتاح.
- ولم تأخذيهِ؟! قال الصهر بخبث ومكر.
- آخذه؟! لا..لم آخذه..ولم أنتبه لهذا الأمر، كنت مشغولة بحزني عليه.. لم افكر بهذا قطعاً..
واستنتج الابن المتزوج:
- إذن المسألة أصبحت مكشوفة..أحدهم سرق المفتاح..
دحض الحضور هذه الفكرة، لأن الجميع يعرفون أن الغرفة لم تخلُ لحظة من الناس والأقرباء... حتى خلال تشييع الشيخ ودفنه وتأبينه..
تساءل الابن:
- وما الحل؟!
حسمت البنت الموقف، بالقول:
- نكسر القفل أمام الجميع.
وافق الجميع على الفكرة بحماسة ظاهرة، ولم تنبس الأم بكلمة.
بحضور ورثة المرحوم، ومختار القرية، تمَّ خلع قفل الصندوق، وفتح غطائه..
تدافعوا وتحلقوا حول الصندوق، أحنوا ظهورهم، وتدلت رؤوسهم المتلاصقة فوق الصندوق المفتوح، حتى كادت تدخل. في جوفه. الأم: زوجة الشيخ وحدها بقيت بعيدة تداري حزنها ودموعها، وكان الصندوق الثمين فارغاً..خاوياً إلا من الهواء.
دمشق