ساد صمت جليّ على القاعة حين اعتلى الشاعر أنور الفالح المنبر بثقة وهدوء.
-" مساء الخير ياأهالي هذه المدينة الجميلة.. أنتم أصحاب ثقافة وأدب.. لذا جئت إليكم أحمل زوّادة، هي عصارة فكري، ونبض قلبي."
صفّق الحضور، توثّبت قسمات الوجوه، استنفرت الأحاسيس... وتأهّب الجميع لسماع قصيدةً" ذوبان" التي قدّم لها، وقدّم لصاحبها مدير دار " الإبداع "، مشيراً إلى فوزها بالمرتبة الأولى، من بين مجموعة كبيرة من القصائد المشاركة في المسابقة المعلن عنها سابقاً.
أذوب.. أذوب
كرنفال يمرُّ
تهرق زنبقة..
لمن المنابر أورقت؟
أنا لست خنزيراً بريّاً..
ولا زجاجة حبر..
في ساحتي" عربشت
مواسم القحط
ونمت القبيلة..
تململتُ في مقعدي. التفتّ إلى يميني، ثمّ إلى شمالي..تفاءلت وأنا ألمح بصيصاً من التوثّب ما زال عالقاً على الوجوه، وبعض نأمات انتظار، للآتي من فم الشاعر، الذي تصدّرت صوره ومقابلاته الصحف والمجلاّت، فكان معه الحوار تلو الحوار، واللقاء تلو اللقاء.
ياغابة من الفستق الحلبي..
ياامرأة..
زلزلت الأرض
أرعدت السماء.
ناقوس يدقّ
شوارع حبلى
لن يدخل الوقت من سم الإبرة..
لن يدخل..
ابدأً.. ابداً..
اغتاظ أحد المتعصّبين للشعر العمودي. سعل سعلة مقصودة كسرت جليد الصمت. بدأ يوزّع نظراته المستنكرة على الجميع بالتناوب، وهو يقول همساً:
" هل فهمتهم شيئاً؟.."
ثمّ يرفع راسه بالنفي مجيباً عن سؤاله بنفسه. شعوره اللامتناهي بالغيظ شاركه إيّاه شخص آخر كان من أنصار شعر التفعلية، وراح يردّد:
-" هذا ليس شعراً.. هذا ليس شعراً..".
حالة التأفّف تلك لم تطل، فقد أنقذها من ورطتها رنين هاتف مجلجل أقبل من غرفة المدير الخاصّة.
نهض الأستاذ نعمان، وعلى سيمائه علائم غير مقروءة، وغير مفهومه :
- ألو.. من.."..
- أنا أبو ميسّر
وقف المدير بوضعيّة استعداد حال سماعه للإسم.
- أهلاً.. أهلاً أبو ميسّر كيف الحال؟.. كيف الصحّة" كيف ؟.. كيف؟..
- بخير، بخير.. لكنّني عاتب عليك يارجل.
- لماذا؟.. كلُّ شيء يهون إلاّ غضبكم... أنتم تاج راسنا، وأولياء نعمتنا.
- " لقد سمعنا أنّك قد أقمت مساء أمس حفلاً فنيّاً ساهراً بمناسبة مرور عام على تدشين مبنى الدار، وكان المغني" فصيح الأخرس".. هو بلبل السهرة- وأنت تعرف كم أنا مغرم بصوت هذا المطرب.. فلماذا لم تدعنا؟.. لو كنت فعلت، لجلبنا الزوجة والأولاد وجئنا نتسلّى.."
جمد الأستاذ نعمان في مكانه، ولم يستطع أن يجيب.. ولواستطاع لقال له:
-" لقد أرسلت إليك عشرات البطاقات من أجل حضور أمسيات وندوات ومحاضرات ثقافيّة... لكنك لم تأت، لذا أحجمت عن دعوتك".
اعتذر المدير عن تقصيره غير المقصود.. اعتذر كثيراً، ووعد بأنّه لن يكرّر فعلته الحمقاء بعد اليوم... ثم عاد إلى مقعده يتابع ما تفضي به قريحة الشاعر:
رجع الصدى آت..
يتسلّق التلعات
يعبر مفازات الرؤى
من منكم بلا خطيئة
فليرمها..
أذوب.. أذوب..
فالقرنفلة أشرفت على
الانتحار
أذوب.. أذوب
وأرضع لبن الشماتة
واشتمُّ رائحة الملل..
حالما خرجت كلمة" ملل" من فم الشاعر " الفالح"، كان نصف الجالسين على أهبّة النهوض، بينما النصف الآخر يتأرجح ما بين النوم واليقظة.. وهاهو جاري " أبو سليم" يغطُّ في نوم عميق كعادته، حتى لكأنّ شخيره يطغى على مخارج حروف القصيدة، فلا أكاد أفهم ما أحاول فهمه.
-" ما دمت تنام في كلّ مرّة، فلماذا تأتي ياعمّاه؟"
-" لعن الله السكرّي.. هو السبّب.".
خيبة أمل اعترتني، أحبطتني، شدّتني إلىأسفل، وأنا أرى القاعة المهيبة الرحبة خاوية الوفاض إلاّ من بعض القلّة المهتميّن، والذين باتوا يعدّون على أصابع اليد.. لماذا؟.. وما الذي حصل؟.. وما هو السبب؟... لا أحد يدري.. وربّما يدري، وهنا تكمن بذور المصيبة. سقى الله الأيام الخوالي، عندما كنّا نذهب إلى المراكز الثقافيّة لنحضر أمسية أو محاضرة فلا نجد لنا كرسياً نجلس عليه، فنضطر للوقوف كي لاتفوتنا نعمة الإصغاء.
صرخة قوية أخرجتني من حالتي، فأوليتها الانتباه:
بم.. بم.. بم..
سمعت دويّ الأقحوان
صعد الرجل إلى السماء،
أمطر امرأة..
بكت..
من يزود؟...
أنا عنترة الزمان..
ولا زمان.. ولا زمان..
عند نهاية القصيدة، فوجيء الشاعر بخلوّ القاعة.. لم يجد من يصفقّ له، فصفقّ لنفسه، ونزل عن المنبر، بالثقة ذاتها التي اعتلاه بها.