عندما انفتح الباب، نفث البيت رائحة عفن قديم..
دفع صابر عربته وصاح:
- تعالي يارضيّة.. أين أنت؟..
هرعت الزوجة ملبية النداء، تساعده على إدخال أشيائه التي عادت معه بعد عناء يوم طويل.
فوق مصطبة الدار، جلس صابر متكئاً، ورضيّة إلى جانبه، بينما ظلال الحزن تزحف رويداً، لتغطيّ مساحة وجهها الذي ملّ البقاء..
بادرت بنبرة أسى:
-" رحم الله أيّام زمان" وقت كانت الشمس تزور هذه الدار كلّ يوم..".
- لكنّ إحساسنا الحقيقي بها ما زال باقياً ياعزيزتي.
لم تستطع أن تستوعب مدلول كلماته.. فقط رفعت رأسها إلى الأعلى لتتابع:
- هذه العلالي مخصوصة بمخلوقات سوانا.. أمّا نحن فجدير بنا أن تأكلنا الرطوبة حتىّ الموت.
عرف قصدها، ومرمى قولها... تريده أن يرحل كما رحل جيرانه وذووه.. قبضوا اثماناً باهظة، ثمّ اختفوا...
أمّا بيوتهم، فقد هدمت ليشاد مكانها أبنية ضخمة تكاد تناطح السحاب.
صحيح، أنّ المنزل صار قديماً جدّاً، وصغيراً جداً بالنسبة للعمارات المحيطة به... وصحيح، أنّ هذه العمارات قد سرقت منه نور الشمس إلى الأبد.. لكنّه لن يبيع.
فكم لعب بهذا المنزل وهو صغير..وكم جلس على هذه المصطبة ونام.. وكم غازل الفراشات ونادم أطياف الحمام. تطلّع إلى الخلف، ومن خلال النافذة واجهته صورة أبيه، فرآه ذا سكينة ووقار، وعلى جبهته قرأ سطوراً لاتحصى عن عراكه مع الأيّام.
***
حين يأتي النهار متراخياً إلى جفني صابر، ينهض من نومه. يغادر داره متجاوزاً الدرجات الخمس...
الأولى، الثانية، الثالثة.. عند الرابعة يتمهّل..
من باب الدار، إلى الشارع.. ومن نهايته المتفرّعة الاتجاهات يمشي إلى وسط المدينة. تتكشّف له السماء.
يخترق النور خلاياه، مخزّناً جسمه الدفء اللازم لاحتمال رطوبة البيت الذي سيؤويه حين يعود.
رحلة العربة اليوميّة بالنسبة إليه كانت بهجة تغلّف حياته المجرّدة من اللون.. ولا يزوره الارتياح إلاّ هناك، في تلك الأزقّة الرحبة رغم ضيقها.
حين تطأ قدماه أوّل الزقّاق يتوهّج بحبّ متقّد، وتتوارد إلى شفتيه أطياف ابتسامات لاعدّلها، وتبدأ أغنياته الشعبيّة بمطالعها المألوفة، يترنمّ بها على حاجياته التي يحبّها الصغار.. فيخرجون من بيوتهم كنحل يندفع من خليّة.. الفرحة تضوع على ألسنتهم، وتغرق عيونهم بالسعادة.. يرفعون رؤوسهم الصغيرة، واللهفة ما تزال تعابث أفواههم:
- ماذا أحضرت لنا اليوم ياعم صابر؟..
- هل أتيت بما وعدت البارحة؟..
ويجيب صابر على تساؤلاتهم. تتعانق أصابعه مع أصابع كلّ يد تمتد إليه. ينسى نفسه بين الأطفال، وهو يضغط على أكفهّم الطريّة.. يتقاذفه حب كبير، بينما القطع النقديّة تتسابق إلى جيبه، حيث يمضي وهو يعرف إلى أين.
****
سرت في أوصاله رعشة، تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى رعب حقيقي. وقف لايدري ماذا يفعل. كان الانتظار عقيماً جداً، وصعباً جداً. عالج ابواب الغرف جميعها فتحها باباً إثر آخر. نادى زوجته كما تعوّد أن ينادي كلّ يوم، لكنها لم تجب.. فقط ردّدت الغرف الحزينة صدى صوته الأجش:
- رضيّة ... اين أنت؟!..
عاد إلى الطريق.. تطلّع بغير هدى.. واجهته أبعاد مستحيلة لرؤية ئائهة النظرات. أحسّ بوجع يتورّم في داخله.. مرّت ساعات ورضية لم تحضر.
اتجه صوب الغرف من جديد.. فتح ابوابها ثانية..
ثمّة بقع كالحة الألوان، وخيالات مختلفة الحجوم، تتوزّع فوق الجدران. احتضن صورة ابيه بعينين متوسلتين.. حاصره همٌّ إضافي:
- ترى.. من أين يأتي النور؟..
زجاج الصورة يعكس ضوءاً يتسرّب إلى الداخل حز مة متعرّجة، ويعانق حيّزاً من ارجاء الغرفة.
استغرب الأمر... زاد استغرابه أكثر عندما رفع رأسه إلى الأعلى.. لقد بدا له سقف الغرفة بقسمين مختلفين، كلّ واحد يحاول الابتعاد عن الآخر.. والنور الذي يتسلّل، مصدره شق واضح هناك.
عبر دهر، وصابر لايزال متيبساً في مكانه.. القسمان ينأيان، والشرخ يكبر، والنشيج في قلبه في تنامٍ.
أطبق جفنيه..
المباغتات كالسيوف تحيط به.. يريد أن ينجو منها على عجل، فيرى أيّامه وقد عادت إلى ما كانت عليه، تصالحه، وترفق به.. لكنّ الجدران ذات البقع الكالحة الألوان.. لم تترك له وقتاً كافياً لتحقيق الأمنيات. فقد بدأت بالتداعي.. بينما أعماقه تتمتم تحت الركام:
" لابدّ أن الشمس أرادت أن تزورنا كلّ حين.."