في الزمن الأوّل
وقف الرجل على قمّة الجبل، يعانق السماء، ويمسك بذؤابات الأفق. وتمتدُّ يداه تفتحان نافذة مغلقة...فتهطلُ مُزنٌ لم تتقن التهطال من قبل. وينظر الرجل إلى اسفل، فيرى الأشياء كلّها نقاطاً صغيرة تتحرّك.
وبينما هو فوق، يدندن أغنية العلا، ويحكي أسطورة الرجولة الخالدة، حانت منه نظرة ثاقبة تمشّط عمق الوادي، فلمحها.. كانت المرأة تتوضّأ بفيض الألق، وتوشّي جناحيها بطهر النهار، وتلوّن قلبها ببهاء قوس قزح، وتواري مفاتنها بظلال السكينة الوارفة، وتلملم زهور الأقحوان لتصنع منها وسادة للمبيت.
ناداها.. لم ترفع الطرف إليه. كانت مشغولة بحبّها لذاتها، وشغفها بطيوف الرؤى.
تابع النداء :
“ أيّتها الأنثى.. أنت منيّ، ومن ضلعي ولدت، ومن كينونتي صرت، ومن صنعة اصابعي تشكّلت، ومن روحي خرجت روحك، فاصعدي إليّ، آمرك في هذه اللحظة أن تصعدي إليْ."
خفقت المرأة بجناحين من عبير. تابعت الهدهدةَ والرفيف ومحاكاة الفراش. كان الصمت يجري هادئاً عميقاً في مملكتها.. تركن إليه، وتجول ضمن فضائه، وتنام على زنده حين يدهمها الكرى.
أفزعتها الصرخة الإنسيّة المفاجئة، زلزلت قدسيّة عالمها. أدهشها الصخب المدوّي..
" آمرك أن تصعدي إلى"،
في الزمن الخامس
غادر الرجل القمّة والفسحة الرحبة، ونزل إلى منتصف الجبل. كان كلُّ شيء يشدّه إلى اسفل. من هذاالموقع يستطيع أن يراها بوضوح، وتستطيع هي أن تسمعه بوضوح. وميض الرغبة الجموح يحيط به، يحوم يحوم، ثمّ يستقرُّ قريباً من فردوسها. وأوردة قلبه تنضج فيها مواسم الحب ساخنة مزهرة.
تابع المسير، فتوالى على مسيره ألف ليل، وألف نهار، وألف مدى يوحّد الأرض بالسماء، ويهصر المسافة المتبقيّة بينه وبينها. القمّة صارت ظهراً له، والسفح أصبح صدره، والخطّ غير المستقيم يتلوّى يميناً ويساراً، وبين الجهتين تمتد برك وجداول وبساتين، وتنتصب أعواد عملاقة من قصب السكّر. وصل الرجل إلى قلب الوادي.. كانت المرأة هناك ما تزال تحتفل بأعياد العصافير، وتتزنرّ بالقصائد.. تحمل على جناحيها قرنفلتين.. الأولى بلون الشوق، والثانية بلون الصباح.
قال لها:
" ياأميرة الوادي.. يادفق الأنوثة.. أيّتها التحفة النادرة ها أنذا نزلت إليكِ.. تركت جبروتي وقوّتي وعزّة نفسي، وأتيتك طائعاً صاغراً مستسلماً.. أحمل ولهي، وخزائن نفسي الحبلى بحقول القمح.. ما أسعدني اليوم بلقياك، وأنا أتنسّم طيب أنفاسك، وألمح نمنمات وجهك، وأتعرّف طقوس يومك عن قرب.".
جاءها صوته هذه المرّة أكثر ضعفاً وتوسّلاً، وأكثر غنىّ وصدقاً. رفّت قليلاً، استدارت صوبه، رقصت رقصة معيّنة أذابت بعضاً من ثلوج التمنّع لكنّها عادت تواصل الطيران، رأسها باتجاهه، وجناحاها إلى الأمام.
في الزمن ما بعد العاشر
تكثّفت ساحة الشعور بينهما فاجتمعا. عند أحد مفارق الطرق التقيا. أقيم عرس، وضجّ مهرجان، وارتفعت راية بيضاء. بعد أن كان اللهاث خلف المرأة قد أضناه، وهدّ حيله.. وبعد أن ذهب من العمر أغلبه، وابتلعت الشعرات البيضاء جلّ مساحة الرأس، والسنوات جلّ مساحة الشباب.
" لقد قضيت الأيّام أعدو وراءك، أقطع المفازات، وأجتاز التخوم، وأطوي الطرق الجبليّة الوعرة.. وقد آن الأوان كي تلتفتي إليّ.. إلتفتي، أجعل مشيئتك شريعتي سحابة الحياة، وأظلُّ خاضعاً لك طول الزمن." لشدو المناجاة رقّت، وللأحلام البشريّة الرائعة رفعت هامتها الصغيرة، وللحب الحقيقي أصبحت ليّنة وديعة، فاسدلت جناحيها، ضمّتهما إلى صدرها، وشيئاً فشيئاً راح يضيق، يضيق ما بين الكتفين، حتىّ اختفى الجناحان تماماً، ونبت لها قدمان جميلتان مشت بهما إليه.
في الأزمنة اللاحقة..
كان الناس يشاهدون الرجل يطير، والمرأة تركض خلفه.