وضع المحرر الجديد في صحيفة الحقيقة مقالته الأولى أمام رئيس التحرير.. رجع خطوتين إلى الوراء، ووقف برهبة وخشوع، يسرق نظرات خاطفة إلى ملامحه وتقلّصات وجهه التي تتبدل باستمرار.
قرأ رئيس التحرير سطورها، وأبدى إعجابه، بهز الرأس والهمهمة والابتسامة. ثم نظر إليه، وقال بإعجاب:
- عظيم.. عظيم..
هدأت نفس المحرر واسترخت أعصابه المشدودة، وكاد يطير فرحاً، لولا أن قال رئيس التحرير: ولكن...
سأله متلعثماً وقد تبدد فرحه: ماذا....؟!
- انظر هنا..
دنا المحرر بخطى متعثرة وقال متسائلاً: أين؟!
خط رئيس التحرير بالقلم الأحمر على أحد السطور، وقال:
- هنا... اقرأ.... الرقابة لا تسمح بهذا الكلام.
احتج المحرر: سيدي... أنا لا أشتم أحداً ولا أتجنّى على أحد... لم أذكر أسماء أو ألقاباً أو صفات.
- لابأس. أوافقكَ الرأي.. غير أن هذا الكلام يثير أكثر من سؤال.. فيه غمز ولمز من طرف خفي، وأنت في أول الطريق.
هل تفهمني؟!
ابتلع المحرر غصته وقال: طيب.. احذفه.
كان يعتقد أن هذه الملاحظة هي الأولى والأخيرة، لولا أن أضاف رئيس التحرير مستنكراً:
- وهذه الفقرة.. فيها تلميح وإشارة إلى بلد ما..
قال المحرر كمتهم يدافع عن نفسه: بلد أجنبي.. أين المشكلة..
- ياعزيزي... البلد الأجنبي.. إما صديق لا نريد عداوته أو عدو لا نود أن نستفزّه.. ألست معي؟!
وقبل أن يسمع جوابه حذف الفقرة بخطين أحمرين متصالبين، ثم تابع بشيء من اللوم والاستنكار:
- يا أخي... وهذه العبارة لا مبرّر لها.. قد تفتح علينا أبواباً نعجز عن إغلاقها... وهذه الأفعال.. اقرأ... يوجد خلل.. نغرق في دوامة... متى نقضي على الفساد.. لماذا تتناول الحاضر دائماً؟! الماضي أكثر سلامة... فلماذا لا تقول: كان، ليس، لعلّ. مابها هذه الأفعال؟!
رد المحرر مازحاً: إنها أفعال ناقصة.
- هذا صحيح، لكنها لا تضعك في دائرة السؤال.
- هل من ملاحظة أخرى؟!
- لا... أبداً.. الباقي بدون تعديل.
أعاد له المقالة، وقد طمست الخطوط الحمراء معظم فقراتها وسطورها وكلماتها، وقال:
- أعد كتابتها على هذا النحو حتى تكون مجازة للنشر.
عندما قرأ المحرر مابقي من النص، لم يجد سوى الأفعال الناقصة، وأدوات النصب والجر.