في يومه الأول أعلن المدير الجديد، أمام موظفيه وعماله، أنّ زمن التسيّب والفوضى قد انتهى إلى غير رجعة، وأنه ماجاء إلا ليقضي على الخلل المعرّش كالسرطان. وفي نهاية خطبته دعا رؤساء الأقسام إلى اجتماع مسائي يقدمون فيه تقارير وافية عن سير العمل والسلبيات والمعوّقات والاقتراحات.
مساء... جلس في مكتبه الوثير، على كرسيه الدوار، بين باقات الزهور التي تلقاها من المهنئين.. من أصحاب المصالح والموظفين والأصدقاء. وتوزع رؤساء الأقسام على مقاعدهم وفي أيديهم أوراقهم وتقاريرهم.
دار المدير بكرسيه يميناً ويساراً.. تناول جهاز التحكم، يضغط أزراره، ثم توقف عندما أطلّت مذيعة تلفزيونية بوجهها الجميل وأناقتها الجذابة، وأعلنت عن قطع البرنامج العام والانتقال إلى أحد الملاعب لنقل مباراة بكرة القدم.
مطّ عنقه ومال بجسمه إلى الأمام.. فتح عينيه وأذنيه وفمه.. تغيرت ملامح وجهه، وبفرح طفولي هتف قائلاً:
- مفاجأة؟! أليس كذلك..؟!
هزّ الحاضرون رؤوسهم بين مؤيدٍ ومجامل. وعندما أرادوا أن يقدموا له تقاريرهم، دفعها بيده وقال:
- ليس الآن.. ليس الآن..
كنابض يقفز فوق كرسيه الدوار، أو كلعبة اليويو التي يلعب بها الصغار، وبشغف طفولي يصرخ مشجعاً..عيناه معلقتان بالشاشة الصغيرة، ويداه تدقان على زجاج الطاولة بعنف.
قال أحد رؤساء الأقسام متردداً:
- أستاذ... التقارير...
رد باستياء: قلت ليس الآن..
وأضاف بنبرة مختلفة: انظر.. ياسلام.. تسديد رائع.... هدف... هدف.. سوف نربح المباراة.
سأله موظف تقدّم به العمر:
- هل نشارك فيها. هل بين اللاعبين فريق عربي.
أجاب: لا.. إنها بين إيطاليا والأرجنتين.
عقّب الموظف وهو يعدّل نظارته:
- وماذا يهمنا إن ربحت إيطاليا أو خسرت الأرجنتين؟! أو...؟!
قطّب المدير جبينه.. اكفهرَّ وجهه وقست ملامحه وقاطعه غاضباً:
- عجيب أمرك أيها الرجل. كيف تقول ذلك...؟! كيف تخسر الأرجنتين...؟! إن خسرت -لاسمح الله- فتلك صدمة وكارثة كبرى...
ابتسم الموظف المسن ولم ينطق بكلمة.
بعد ساعتين.. قام عن كرسيه الدوار مخذولاً، وخرج من مكتبه يتبعه رؤساء الأقسام... أيديهم تشد على تقاريرهم التي لم يقرؤوها واقتراحاتهم التي لم يعرضوها.
همس أحد الموظفين: أضعنا ساعتين سدى.
رد آخر: إنها خسارة، خسارة كبيرة.
سارع المدير الذي لم يستوعب عبارته قائلاً بصوت حزين مقهور: نعم... نعم.. إنها خسارة كبيرة، فقد ضاعت من الأرجنتين فرص ثمينة.