عندما أنجز روايته الأولى، كتب في مقدمتها الإهداء التالي:
إلى روح أبي.. الذي.. والذي.. والذي.. أهدى كتابي هذا، لعلي أرد له بعض الجميل.
تنفّس بعمق وفرد ذراعيه على الجانبين.. رفع رأسه إلى الأعلى.. ثبّت بصره نحو نقطة في سقف المكتب، وقال بصوت متهدّج:
-حقاً.. لقد ارتاحت نفسي. إن لوالدي فضلاً كبيراً علي.. كان لي أباً وأخاً وصديقاً.. ضحّى بالكثير من أجلي. احتمل شقاوتي، وعانى من عقوقي.. صفح عن أخطائي وذنوبي.. وهأنذا أرد له بعض الدّيْن.
ثم أضاف بنبرة حزينة: المشكلة ليست في الكتابة، بل في الطباعة والتوزيع.
طوى أوراق المخطوطة، ووضعها في أحد الأدراج.
انتظر أياماً وشهوراً.. بين الأمل واليأس.. وذات يوم رأيته يحث الخطى نحو دائرة البريد والبسمة تعلو وجهه. فبادرني قائلاً:
-فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج.
-أراك سعيداً. ما الأمر؟
-الرواية التي كتبتها.. ألا تتذكرها؟!
-نعم. هل قررت أن تطبعها؟
-رد ساخراً: أنا؟! من أين؟!
ثم أضاف موضحاً:
-إحدى الجهات أعلنت عن مسابقة لاختيار رواية غير مطبوعة، تقوم بطباعتها على نفقتها.. والجائزة قيّمة.
-هذا جيد.
كانت المخطوطة في يده وقد شد عليها أصابعه بإحكام. أردت أن ألقي عليها نظرة أخيرة، فقال:
- لقد أطلعت عليها من قبل.
أثار فضولي تمنعه.. أمسكت بها، فناولني إياها متردداً.
فتحت على الصفحة الأولى وقرأت:
(إهداء.. إلى الشيخ الجليل.. حامي الحمى، وجامع الشمل.. ونبع الأصالة والكرم،و... و.. .. أهدي روايتي هذه. عرفاناً بالجميل.)
نظرت إليه بدهشة، وقلت مستغرباً:
-أف.. ما هذا؟
تبدّل لونه وقال بصوت ضعيف دون أن يرفع رأسه إلي:
-نعم.. غيرت الاهداء.
قلت مستنكراً: كيف؟ لماذا؟ وروح أبيك الذي.. والذي...؟
لم ينطق بكلمة.
قلت: افترض أن الرواية لم تفز.
رمقني بنظرة لوم وعتاب وقال: لا تقل ذلك، فأنا أتشاءم. أضفت قائلاً: تخسر الجائزة، وتخسر أباك. أعد كتابة الإهداء لأبيك، واكتب رواية أخرى للشيخ الجليل، كما سميته.
سحبها من يدي بقوة.. قطّب جبينه، وقال وهو يبتعد عني مسرعاً:
-أبي، انتظر عشر سنوات.. فلماذا لا ينتظر سنة أخرى؟!
وقبل أن يسمع جوابي، اختفى عن ناظري وابتلعه الزحام.