على الرغم من اهتمام سكان البيت بالضيف الغريب، وانشغالهم به، ظلت في الغرفة الأخرى، تلعب بدميتها.
دخلت إليها والدتها، وقالت زاجرة:
-كفاك لعباً.. صرت كبيرة، هيا اغسلي وجهك وسرّحي شعرك، واحملي القهوة للضيوف.
قامت مكرهة.. جرتّها أمها من يدها وضعت بعض اللمسات على وجهها وشعرها، وقالت:
-هيا.. اتبعيني ولا تتأخري.
دخلت الفتاة غرفة الضيوف، تحمل القهوة بيدين مرتعشتين وتضغط بذراعها على الدمية التي ضمتها إلى خصرها. فسرت همسات وارتسمت ابتسامات على الوجوه، وحاصرتها العيون بنظرات ثاقبة فاحصة..
تناولت والدتها القهوة منها، وقالت: سلّمي على الضيف.
اضطربت الفتاة واحمرّت وجنتاها.. اقتربت منه بخطى متعثرة، وقالت بصوت مختلج:
-مساء الخير يا عم..
ضحك الرجل البدين، فبرزت من بين شفتيه الغليظتين أسنان صفراء مبعثرة، واهتز كرشه المنفوخ تحت دشداشته البيضاء.
مدّ إليها يداً غليظة مكسوة بشعر كثيف أسود، وشدّ على يدها الرقيقة بقوة، وقال ضاحكاً:
-تقول يا عم!.
ردت أمها: البنت صغيرة، لا تعرف...
قال الرجل البدين: أعرف.. أعرف، هذا واضح.
وأضاف محدثاً الفتاة: ما هذه؟ دمية؟ جميلة...
واستطرد وهو يحدق إلى الفتاة ويعاينها بنظرات فاحصة:
-جميلة جداً.. رائعة.
أمرتها أمها: اجلسي.
خيم عليهم الصمت.. عيناه مازالتا تتفحصان البضاعة المعروضة للبيع.. والداها يترقبان منه كلمة أو إشارة.
هزّ الرجل رأسه، وأعلن موافقته بنظرة من عينه. قالت لها أمها: اخرجي.
ابتسم أبوها، وقالت له أمها بفرح: مبروك.
اشترى لها هدايا كثيرة، وطوّق معصمي أمها بالذهب، وملأ جيوب أبيها بقطع نقدية كبيرة وصغيرة. وقال لها:
-ستكونين أميرة.. تسكنين في قصر، يحيط بك الخدم من كل جانب. وما عليك سوى أن تشيري بإصبعك.
سألته ببراءة: وهل أحتفظ بدميتي؟
قال بعد تردد: هذه. ما حاجتك بها؟
ثم استدرك قائلاً: طبعاً، وسأشتري لك غيرها.
قالت: أريدها هي، ولا أريد غيرها.
ودّعها أبوها عند سلّم الطائرة، ولوّحت لها أمها بيديها المطوقتين بالذهب. ولما وصلت إلى القصر الكبير، فتحت الحقيبة وأخرجت دميتها.
نظر إليها بعينين جائعتين شرهتين.. تكورت كقطة خائفة مذعورة.. انتفض قلبها كطائر مذبوح.. ضمّت الدمية إلى صدرها، تمسكت بها. دنا منها، رفعها إليه، ثم جرّها إلى غرفته... انتزع الدمية من يديها ورمى بها على الأرض، حرقت أنفاسه الحارة الكريهة بشرتها.. دارت بها الدنيا، أحست أنها تهوي في فراغ لا نهاية له. تلفُّ بها دوامات كبيرة، تصم أذنيها أصوات صاخبة.. تعجز عن المقاومة.. تسترخي. ومن وراء أبواب مواربة كانت ست عيون لدمى مهشمة تنظر بصمت وحذر.