"طوق المحمول".. وليس الحمامة
أصبحت الكلمة المكتوبة تفقد الكثير من معناها وحرارتها وجرسها وصدقها الفني، خاصة بعدما بات رسول المحبين هو الهاتف الجوال، وشتان ما بين هذا وشروط سفير العاشقين الواردة في كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم، رحمه الله.
هذه المواصفات لكلمات المراسلة وغيرها، لم تعد ذات فائدة، مع وجود مواقع على الإنترنت تزود المحبين برسائل جاهزة مصنوعة كالقوالب الجامدة، حيث لا إبداع فيها ولا عاطفة، بل إنها مفصلة حسب الطلب والموضوعات، وبمجرد وجود تلك الرسائل على جهاز من الممكن أن تنتقل إلى سائر المستخدمين، ويقوم المستخدمون بتوزيعها على بعضهم البعض، فتغنيهم عن العودة إلى كتب الأدب والشعر، وإلى من أبدعوا بالكلمة ووصفوا أروع المشاعر.
إن كثرة تداول مثل تلك الرسائل وسهولة ذلك جعل المستخدمين يستغنون حتى عن البحث في الإنترنت عن رسالة مميزة؛ إذ أهم ما يميز ثقافة الجوال هو الكسل والخمول والركود، بكل معنى الكلمة، وبمجرد أن تصل إلى الجهاز رسالة تنال إعجابك ترسلها إلى الآخرين، وذلك دون مراعاة الآثار التي قد تحدثها الرسالة في نفس المستلم الآخر.
إن الخصوصية في الرسائل الغرامية صارت عامة؛ بسبب سهولة تداول المشاعر الخاصة، فأصبحت النفس مفتوحة على العالم وأصبحت نفسها قابلة للالتقاط أي شيء؛ ولذا غابت عنها تلك التعبيرات التي تخص صورة المحبوب الوحيد والأوحد، كما ظهرت في غزل الشعراء القدامى والمحدثين، مثل التغزل بالقامة والعين والثغر والشعر، أو أي من صفات المعشوق، أو كما قال الشاعر الأندلسي:
غزال قد حكى بدر التمام *** كشمس قد تجلت من غمام
سبى قلبي بألحاظ مـرام *** كقد الغصن في حسن القوام
فمثل تلك الصور لم تعد متاحة في عصر العولمة عصر السرعة والارتباك، وجمود العواطف؛ فالحب في أدب الرسائل القصيرة صار حبا آليا إن صح التعبير.
إن ما تفتقده لغة الرسائل القصيرة في عصرنا هذا، ليس سحر الكلمة فقط، وإنما عمق العاطفة، مع أن الكلمات تأتي أحيانا مفاجئة بجرأتها المتوارية خلف طرافة اللفظ وابتذال المعنى.
بل إن أدب الغزل في الجوال، لا يتوانى عن شقلبة المعاني، وتمني الموت للمحبوب: "ليتني قطرة من دمك، واستقر بقلبك وأعملك جلطة. المرسل: عاشق نذل"!!!.
هكذا انحدر الذوق الأدبي في الرسائل الإلكترونية الهاتفية أو البريدية... إلى هذا المنحدر وهذا المستوى الهابط الجامد الذي يخلو من العواطف الصادقة تماما، اللهم تلك الرسائل الإلكترونية المصنوعة، وتخلى كذلك عن السمت الأدبي والذوق الرفيع الذي كانت تعرف به الرسائل في القديم.