أنا مدرّس للغة العربية عملت معاراً في اليمن أربع سنوات، وأتبعتها بسنتي استيداع. واشتريت بما وفّرت بيتاً في ( المزّة) وانتقلت إليه، وأجَرْتُ بيتي القديم.
فجأة، وبلا مقدمات، قفزت أسعار البيوت قفزاً مجنوناً. وأصبح محسوبكم من أصحاب الملايين، فلم يعد عقلي يحملني، نظرت من حولي، تْشمّمتُ الأسواق، واتجاه الرياح، وقلت لنفسي: ياولد! إذا جنّ قومك فجنّ معهم.
وبلا طول سيرة بعتُ البيت الجديد، واستأجرت بيتاً استئجاراً سياحياً، وتصرّفت بالأموال بحكمة وحمدت الله أني لم أنس المثل الانكليزي الذي يقول: لاتضع بيضك كله في سلة واحدة! فوظفت نصف المبلغ عند أحد جامعي الأموال في مشروعاته المختلفة، ولم أكن قد سمعتُ بغيره لقاء دخل شهري يساوي مجموع مرتّبي قبل استقالتي لمدة سنتين، واشتريت بربع المبلغ شقة (على العظم) على الخريطة، أتسلّمها بعد سنة واحدة. واشتريتُ «ميكرو باص» على المازوت بالربع الأخير، وسلّمته لأحد السائقين المأمونين جداً. وصنّفت نفسي من أصحاب الأملاك، وصرت أحلم بالسيارة والمزرعة وقضاء الصيف في مونت كارلو أو جزر الكناري، والشتاء في بانكوك أو هونولولو، وراودتني فكرة الزواج ثانية!
وأعترف، وليس لكم عليّ من يمين، أني عشت كأمير من أمراء النفط سنة كاملة تعادل عمري، الذي عشته وسأعيشه ولو عُمّرت مئة عام. وفجأة صحوتُ من الحلم وأظلني كابوس ثقيل، إذْ قُبض على جامعي الأموال بالعشرات. وجُمّدت أموالهم وأموال المودعين الذين يعدّون، ويا للعجب، بعشرات الآلاف، حتى إشعار آخر. وتطوعت الحكومة مشكورة، حفظها الله، أن تنصف المودعين، وها قد مضى أكثر من ثلاث سنوات، ولم تتخذ أي قرار في شأننا. واكتشفت حين ذهبت لتسلُّم الشقة الموعودة ـ وياللهول، على لغة المغفور له يوسف وهبي ـ اكتشفت أنها مبيعة لعدة أشخاص، والمحكمة، التي ستقول كلمتها الفصل، قائمة، الآن، على قدم وساق، والخصوم يتكاثرون كالفطر وآمل أن يتم الفصل فيها خلال السنوات القادمات، وقد أخبرني أحد العارفين ببواطن الأمور، وهذا سرّ أرجو أن يظل بيني وبينكم، أن أمثال هذا التاجر سيحالون ، وفق قانون جديد، يُدرس حالياً، على محكمة الجنايات بصفتهم محتالين وسارقين ، لا على محكمة مدنية تستغرق سنوات وسنوات كما هي الحال الآن. وهبطت أسعار ( الميكروباصات) المازوتية إلى الثلث، وأصبح دخل ( ميكروباصي) يصرف بأكمله على الاصلاح، كما صرّح لي السائق المأمون جداً! وحين طالبت ببيتي القديم المؤجر أعلن المستأجر الكريم العصيان! وحين احتكمتُ إلى القضاء، وقدمت كلَّ المستندات التي تثبت أن المستأجر يملك بيتاً في (ببيلا) رُدّت دعوتي، لأن (ببيلا) من ريف دمشق، مع أنها لاتبعد إلا أمتاراً معدودات عن آخر حي في المدينة. كما اضطررت إلى ترك البيت المستأجر سياحياَ لانتهاء المدة المحددة، ولأسباب لم تعد تخفى عليكم. وأثاث بيتي، الآن، موزع عند بعض أقاربي. وأصبحت أنا في بيت أهلي، واصبحت زوجتي مع ابننا الصغير عند أمها في غرفتها الوحيدة، وأصبح قسم من أولادي عند عمّهم، وقسم عند خالهم. ونحن نلتقي جمعياً مرّة في الأسبوع في إحدى الحدائق العامة، في انتظار أن تحلّ مشكلاتنا جميعاً فنلتقي من جديد، تحت سقف واحد!
وأرجو ألا تظنوا أني حزين أو غاضب أو نادم، فقد تجاوزت ذلك كله، بل أرى أنه كان لابد أن يحدث ماحدث حتى أرى الأمور بهذا الوضوح، وأخرج بهذه الحكمة التي خرجت بها وأنا في غاية الرضا والتفاؤل. وكتابتي لقصتي ليست شكوى موجهة إلى أحد على الإطلاق؛ فأنا أعلم أن المسؤولين أكثر حرصاً مني على حل مشكلتنا، ولاشك أنهم يسهرون ليل نهار من أجلنا، ولااريد أن أضيّع أوقاتهم الثمينة بشكاوى لاتقدم ولاتؤخر. وكل ماهو آت قريب. ومهما يكن وضعي صعباً وقاسياً فلايمكن أن يقارن بأوضاع بعض ممن عرفتهم أو سمعتُ عنهم. فجارنا أصابته، بما حصل جلطة قاتلة، والأستاذ كامل، الذي وظّف كل تعويضاته بعد عمل ثلاثين عاماً في منظمة دولية، انتهى به الأمر إلى مستشفى الأمراض العقلية، أما تلك المرأة التي باعت بيتها لتجد دخلاً يطعم أولادها الخمسة فقد اضطرت إلى أن....
إذاً... هاأنذا أعترف أني المسؤول الأول والأخير عمّا حدث. أنا الجاني وأنا الضحيّة, ولاأتهم أحداً سواي. وإن كنت أكتب لكم فإني أفعل ذلك لتتسلوا بقصتي وتضحكوا قليلاً، وأنتم في حاجة إلى ذلك، فأنا أعلم أن حياتكم أصبحت صعبة أكثر مما ينبغي، أليس كذلك؟!
وأودّ أن أبوح لكم بسرّ: المصيبة التي وقعت على أمّ رأسي جعلتني أتلمس موهبة التأمل والكتابة عندي، فمنذ زمن بعيد وأنا أحس أن هذه الموهبة تتحرك في داخلي، وأنا أتجاهلها، وهاهي ذي تحاول التعبير عن نفسها.
لي رجاء بسيط بشقين: الشق الأول موجه إلى وزارة التربية لإعادتي إلى عملي في التدريس ولو كان تعييني الجديد في (ديرالزور)، والثاني موجه إلى اتحاد الكتاب العرب للموافقة على طبع روايتي الأولى التي كتبتها أخيراً من واقع معاناتي، فروايتي لاتقلّ، في رأيي، عما ينشر هذه الأيام!
واسمحوا لي أخيراً أن أودعكم من مقهى (أبو كمال) هذا المقهى الشعبي الذي أتردد إليه كثيراً هذه الأيام، فقد تأخرت على الصديق الذي دعاني للإفطار على حسابه عند بائع فول مشهور في السوق العتيق!