لا يا أخي! أنت على خطأ كبير: الدنيا ما تزال بألف خير، وستبقى. القصص التي أوردتها صحيحة كلها، وأنا أستطيع أن أروي لك منها العشرات، يكفي أن تراقب الأمور منذ خروجك، من البيت إلى العمل، وحتى تغمض عينيك استعداداً لنوم قد لا يأتي، لترى كم من الأمور تجري على غير ما ينبغي؛ في الشارع، في الحافلات، في الدوائر في المقاهي والمطاعم، في وسائل الإعلام، وحتى في بيتك. أنا أعرف هذا، وألمسه ولكني أقول لك: الدنيا ما تزال بألف خير، وستبقى. المشكلة أننا نرى الأخطاء لأنها ناتجة من فعل يُمارس أمامنا، فنتحدث عنها، ونضخّمها، ونستنكرها ونتلذذ بإشاعتها بين الناس، وكأننا ننتقم من شيء ما خارج أنفسنا أو داخلها لا فرق. ولكننا نسكت عن الصواب، وكأننا إزاء مؤامرة صمت، أو لأن الصواب هو الشيء الطبيعي الذي يجب أن يكون فلا نأبه به، أو لأن الصواب نية لا تبدو في فعل أحياناً، أو هو امتناع عن فعل الخطأ فوراً أو بعد تردد فلا يظهر أثره بين الناس.
تعال لأروي لك بعض القصص من آلاف أعرفها وربما يعرفها الآخرون، تعال لأضرب لك بعض الأمثال وما أكثرها! هل تسمعني؟
حين انفرط عقد ربطة العنق للسيد بشير، وهو في دائرته. وكان مضطراً لأخذ دبوس من مكتبه لتثبيتها مؤقتاً. التفت إلى زملائه في الغرفة وقال لهم:
ـ اشهدوا يا إخوان أنني استعرت هذا الدبوس، وسأعيده غداً.
الذين يعرفون السيد بشير حقاً لم يجدوا في سلوكه ما يريب، والذين لا يعرفونه ربما كتموا ضحكات ساخرة وهزوا برؤوسهم هزّات لها أكثر من معنى.
وحين استقالت الآنسة فاطمة من وظيفتها بعد خدمة ثلاثين عاماً، وانقطعت عن العمل، فتحوا درج طاولتها، فأخذتهم الدهشة، إذ وجدوا فيه كل الدفاتر التي استلمتها، وكل الأقلام، وكل المحايات، وكل الأدوات الأخرى كبيرة كانت أم صغيرة، وجدوها كما هي لم تمسّ. تركتها الآنسة فاطمة لمن يأتي بعدها!
وحين وجد سعيد محفظة ملأى بالنقود، من عملة محلية ودولارات وفرنكات وجنيهات، لم يعرف عددها حتى اليوم، شعر بالانزعاج، فقد فكر بحال صاحبها في هذه اللحظة. ولم يجد فيها ما يشير إليه. ما وجده أرقام هواتف دون أسماء فحسب. وسرعان ما أخذ يجرّبها حتى لاح له بصيص قاده إلى صاحب المحفظة، الذي حضر واستلمها كاملة غير منقوصة. ومن لهفته، ومن فرحته، ومن دهشته، التي لم يستطع أن يداريها، نسي أن يشكر سعيداً على عمله. وبقي سعيد يراقبه وهو ينصرف، ويغالب دمعة لا يدري دمعة فرح هي أم دمعة حزن، وهو يفكر في أحد يقرضه مبلغاً بسيطاً حتى آخر الشهر!
وحين قابلت أريج الطبيب الغني القادم من أمريكا، الذي تقدم لخطبتها، في مكان عام، كانت قد توصلت إلى قرار رفضه، بعد استشارة ابنتيها الصغيرتين، ولما أبلغته قرارها، لم يفاجأ، وابتسم. ومد يده إلى جيبه وأخرج مظروفاً محشواً بالدولارات الخضراء، وقال لها وهو يحاول وضعه في يدها:
ـ أترك لك هذا ليساعدك في تربية ابنتيك، أنا أعرف وضعك الحقيقي. فما كان منها إلا أن انتفضت مذعورة، ودفعت المظروف عنها، وكأنه أفعى، وقامت لتنصرف وهي تقول:
ـ أشكرك! أنا لست في حاجة!
وكانت تحدث نفسها: «لن أسامح نفسي لو أخذته» وحين تستعيد هذا الموقف تكاد الدموع تطفر من عينيها امتناناً، وتهتف أعماقها: «الحمدلله».
وحين أبلغوا الكاتب المسرحي المعروف عزمهم على تغيير بعض العبارات في مسرحيته، لقاء «شيك» مفتوح يضع فيه الرقم الذي يريد، تناول «الشيك» الممدود من اليد الواثقة ومزقه وتناول مخطوطته، وانصرف. وعلى مسمع من العينين الضيقتين المفتوحتين على آخرهما بصق.
وحين لفت ساقاً على ساق، وأصبح جمالها الخارق بين يديه، وسكبت نظراتها الحارقة في دمه، وهي تقول له:
ـ من أجل خاطري مشيها، المعاملة!
وكأنها تقول له: هيت لك!
ترك المدير مكتبه، وفتح الباب، وخرج. ولم يعد حتى تأكد أن هذه «البلوى» قد انصرفت!
وحين نقلوا إلى الدكتور أمين الرغبة في أن يحتل المنصب الكبير، اعتذر بلطف شديد: هذا الكرسي أكبر مني، وثمنه غالٍ، وليس في استطاعتي أداء أقساطه!
وحين خُيّر عليّ بين القصور أو القبور، فقد اختار الـ...
وحين... وحين.. وحين.. وحين..
ألم أقل لك يا صديقي إن الدنيا ما تزال بألف خير؟ وإنني أستطيع أن أروي لك حتى مطلع الفجر؟!