وهكذا يا سادة.. يا كرام، وبعد ثمانية وأربعين عاماً، منذ أن خرجتُ من داري إلى موعدكم هذا، أتيح لي أخيراً أن ألتقي أبناء عمي الأربعة. جاءوا يتراكضون من الناصرة، ليروا ابن عمهم في عاصمة عربية، شرعت أبوابها، بعد اتفاقيات «السلام» المزعوم لوفود السائحين.
حين سمعتُ أصواتهم، في الهاتف في بيت قريبي، تلهج بعبارة: «يابن عميّ» لم أصدق. انقطعت أنفاسي، كاد قلبي يتوقف عن الخفقان: اسمع يا بن عميّ سنكون بطرفكم غداً! ولكم أن تتصوروا، يا سادة.. يا كرام.. كيف استنقذتُ فجأة، من شبه العدم، ثلاثة من أولاد عميّ كنا أطفالاً، في القرية، نلعب في البساتين والبراري، وكذلك ابنة عمي الصبية الجميلة. وكان لأبناء عمي أسماء، وما يزالون يحملونها، منذ ثمانية وأربعين عاماً: فهد، محمد، أحمد، ألمازة!
حين وقعت الواقعة، واقتاتت أشواك دروب المنافي أقدامنا وقلوبنا، عادوا هم، مع والدهم عمي، من منتصف الطريق، من عرّابة إلى القرية المحتلة، وأوغلوا في المنفى، في وطنهم، ورفضوا إلاّ أن يكونوا حراس حقولهم وبيوتهم، حتى نعود، فأقاموا ينتظرون غير بعيد على تل بأطراف الناصرة، ينظرون إلى قريتهم من عل، ولعلهم نسوا أو تناسوا، حين طال عليهم الأمد، أن لهم أولاد عم، لا يبعدون عنهم أكثر من مدى الصوت، ولكن قطاف النجوم أقرب إليهم من الوصول إلينا، فأرقدونا على أرفف النسيان، وأرقدناهم، بعد حين، في منطقة محايدة من قلوبنا.
حين جاءني الهاتف من بيت قريبي، إلى الفندق، ينبئني بوصولهم، دخلت في عالم مسحور، أو في حلم مستحيل؛ إذاً أولاد عمي يشاركونني هواء هذه المدينة، وشمسها، وروائحها. وصرت أبعثر، وأنا في طريقي إليهم، صورهم لأعيد تشكيلها فلا أعثر إلا على صورة أطفال بين الرابعة والتاسعة، في الحقول، وعلى الدروب الطويلة ذات المنحنيات، وفوق البيادر.
وحين حانت لحظة اللقاء انفصلتُ عن ذاتي وغدوت مراقباً، ودخل شخص، خرج مني، ودخلوا في موجة بكاء لا تقاوم، هزت الأعماق، وتغلغلت في لعبة الزمن، ولا تريد أن تنحسر، وكان الذي انفصل عني يتساءل عن جدوى ذلك كله.
وحين جلست في حضرتهم، وعاد بعضي إلى بعضي، أخذت أتأمل الأطفال الثلاثة الذين كبروا، وغدوا كهولاً، فابيضّ شعر رؤوسهم، وبرزت تجاعيد وجوههم، وخشن الصوت منهم، وانبعثت من أجسادهم روائح التبغ. يا للدهشة! إنهم لم يتوقفوا، إذاً، خلال السنين الخاليات، عن النمو، فصاروا شباباً، وتزوجوا، وأنجبوا، وكبر أولادهم، وتزوجوا، وغدا أولاد عمي أجداداً لأحفادهم. كل ذلك في ظل الاحتلال، وفي غفلة عنا. كيف حدث ذلك؟ وأما ألمازة ذات الخمسة عشر ربيعاً، المثال الحي للجمال الذي كان يأخذ بلبي الطفولي، الثوب الفلسطيني للصبايا، الجمال القروي، العيون المكحولة، الحطة التقليدية ذات الحمرة الغامقة، والأهداب الفضية أو الذهبية تحيط بالوجه الأسمر المدور. ألمازة يا إلهي! أهي هذه العجوز التي تكاد لا تقف أو تمشي كما يقف أو يمشي البشر، والتجاعيد المتهدلة على العينين والفم والعنق، والنظرات وقد خبا بريقها، أم اثني عشر ولداً وبنتاً، جدة خمسة وثلاثين حفيداً وحفيدة، ومن حفيداتها من تزوجن وأنجبن.
ألمازة..! ما فعل بك الزمن؟!
وهل أنت.. أنت التي عرفتها؟ وبأي المشاعر أعانقك وتعانقينني؟.
إن عقلي لا يصدق. وحملتني أمواج عاتية إلى اللج فاختلط علي كل شيء.
في الأيام الثلاثة التي قضيناها جميعاً، نهضت فوق أحاديثنا «صفورية» القرية البعيدة، القريبة: بيوتها الطينية، أزقتها الضيقة، ساحاتها الواسعة، وشجرة التوت تظللها، حيث يصطف الرجال عصراً وفي الليالي المقمرة، قلعتها الشامخة، روائحها. هذه القرية التي لم يبق فيها حجر على حجر؛ هدموها، طمسوا فيها القلوب والذكريات والأجداد، وتحولت إلى غابة موحشة فوق أنقاض المنازل.
نهض رجالها ونساؤها بملامحهم التي لاتغيب ، ببعض ماقالوا أوفعلوا، بمصائرهم وبمصارعهم، هنا، أو هناك، وبمن بقي منهم حيّاً يسعى.
نهضت أشجار الزيتون والرمان والتين والصبّار من حولها، تلك الأشجار التي قطعوها وأطعموها وقوداً للنيران.
نهضت حقول شقائق النعمان والنرجس والزعتر البرّي، التي استقرت في الذاكرة، وبقيت تشتعل بالألوان والروائح والطعوم، وأسعدني أن مهرجان الربيع، الذي كان، ما يزال ينتظر.
نهضت تلك الليلة الرمضانية التي وزّعت مصائرنا وحظوظنا، من قتل في القرية، أو على أطرافها، إثر الغارات الجويّة وهجوم الدبابات من الجهات الثلاث، ومن عاش ونجا بنفسه واستلم دروب الرحيل.
وإذا اختصرتُ، يا سادة... يا كرام، قلتُ: إن سعادتي بلقائهم كبيرة، وأنا أعانق فيهم طفلاً أثقلته ثمانية وأربعون عاماً من الأحلام والذكريات والدموع. والغريب أننا كنا نتحدث، وكأننا نتابع حديثاً بدأناه في الأمس. وكنتُ أختزن كلمات ومواقف ومشاعر أحملها إليكم وأنا في طريقي إلى موعدكم هذا.
ولكني مع ذلك كلّه، سأعترف..
لقد كان لقائي بهم، كذلك شوكة في حلقي، ومرارة في لساني؛ فهم قد جاءوا في زمن الهزائم والتراجعات، وجاءوا بجواز سفر هجين.
سأعترف، إذاً، أن هذا اللقاء كان ناقصاً، وليس هو ذلك اللقاء الذي انتظرته كل هاتيك السنين، وينتظره أولادي منذ أن أدركوا أن المخيّم مكان إقامة عابرة ليس إلا، وليس هو اللقاء الذي حلم به أبي، وحلمت به أميّ، وماتا قبل أن يتحقق لهما الحلم، وحلم به عميّ هناك وراء الحدود، عمي الذي حين بلغه خبر موت أبي، كما أخبروني، في برنامج «رسائل اللاجئين إلى ذويهم» ضرب كفاً بكفّ، وصاح: باطل! ولم يتوقف عن أغاني أيام زمان الحزينة، أغاني السفر والحج والوداع، وبقي يغنيّ، وينادي إخوته وأهله الذين اقتلعوا من أرضهم، وتفرّقوا في البلاد، حتى فاضت روحه بعد سنة واحدة من رحيل والدي.
واقترب فهد، ابن عمي الأكبر، وهو يودّعني، وقال على مسمع من الجميع: إننا مانزال نحتفظ بكلّ الوثائق بأرضنا بأسماء والدي وجميع أعمامي.
وبكينا، وتعانقنا، وشخص انفصل عني كان يراقبنا في حياد. وفجأة، كحجر قذفته يد قوية في الموج العاتي فغاب، انقضت هاتيك الأيام الثلاثة، وانغلقت على أبناء عمي القضبان الحديدية، وابتلعهم، من جديد، الصمت المدوّي. لقد خرجوا من السجن، وإلى السجن يعودون.
وهكذا، ياسادة.. يا كرام، خرجت من بيتي على موعد معكم، وأنا طفل في السادسة، فضعتُ في الطريق، عثرتُ، نهضتُ، أملت ويئست مرة، يئست مرات. وها أنذا أجيئكم.. أجيء أخيراً،إلى موعدي، وقد أزهرت أشواك التجاعيد في وجهي،واشتعل العمر والرأس مني شيباً، فاعذروني إن تأخرت عليكم، فأنا لم أتأخر سوى ثمانية وأربعين عاماً.. وطار الطير.. والله يمسيكم بالخير!.