مر هذا الرجل الفقير المعدم، وعليه أسمال بالية وثياب رثة، جائع البطن، حافي القدم، مغمور النسب، لا جاه ولا مال ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، مخدته ذراعه، وفراشه البطحاء، لكنه صاحب ذكر لربه وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصف الأول في الصلاة والقتال، مر ذات يوم برسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه باسمه وصاح به: (يا جليبيب ألا تتزوج؟
قال: يا رسول الله، ومن يزوجني؟
ولا مال ولا جاه؟
ثم مر به أخرى، فقال له مثل قوله الأول، وأجاب بنفس الجواب، ومر ثالثة، فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جليبيب ، انطلق إلى بيت فلان الأنصاري وقل له: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويطلب منك أن تزوجني بنتك.
وهذا الأنصاري من بيت شريف وأسرة موقرة، فانطلق جليبيب إلى هذا الأنصاري وطرق عليه الباب وأخبره بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري: على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، وكيف أزوجك بنتي يا جليبيب ولا مال ولا جاه؟
وتسمع زوجته الخبر فتعجب وتتساءل: جليبيب ! لا مال ولا جاه؟
فتسمع البنت المؤمنة كلام جليبيب ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فتقول لأبويها: أتردان طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والذي نفسي بيده).
وحصل الزواج المبارك والذرية المباركة والبيت العامر، المؤسس على تقوى من الله ورضوان، ونادى منادي الجهاد، وحضر جليبيب المعركة، وقتل بيده سبعة من الكفار، ثم قتل في سبيل الله، وتوسد الثرى راضياً عن ربه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن مبدئه الذي مات من أجله، ويتفقد الرسول صلى الله عليه وسلم القتلى، فيخبره الناس بأسمائهم وينسون جليبيباً في غمرة الحديث، لأنه ليس لامعاً ولا مشهوراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر جليبيباً ولا ينساه، ويحفظ اسمه في الزحام ولا يغفله، ويقول: (لكنني أفقد جليبيباً).
ويجده وقد تدثر بالتراب، فينفض التراب عن وجهه ويقول له: (قتلت سبعة ثم قتلت؟
أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك).
ويكفي هذا الوسام النبوي جليبيباً عطاءً ومكافأةً وجائزةً.
إن ثمن جليبيب ، إيمانه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ورسالته التي مات من أجلها.
إن فقره وعدمه وضآلة أسرته لم تؤخره عن هذا الشرف العظيم والمكسب الضخم، لقد حاز الشهادة والرضا والقبول والسعادة في الدنيا والآخرة: ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).إن قيمتك في معانيك الجليلة وصفاتك النبيلة.
إن سعادتك في معرفتك للأشياء واهتماماتك وسموك.
إن الفقر والعوز والخمول، ما كان -يوماً من الأيام- عائقاً في طريق التفوق والوصول والاستعلاء.
هنيئاً لمن عرف ثمنه فعلاً بنفسه، وهنيئاً لمن أسعد نفسه بتوجيهه وجهاده ونبله، وهنيئاً لمن أحسن مرتين، وسعد في الحياتين، وأفلح في الكرتين، الدنيا والآخرة.