الازمة المتجددة التي يشهدهاالمجتمع الفلسطيني منذ فوزحركة حماس في الانتخابات التشريعية الفسطينية, لاتعكس فحسب خلافا في الرؤي والتصورات والاستراتيجيات والاهداف, وانما تعكس ايضا وجود ازمة ثقافية تكمن خلف هذه التصورات, وتذهب بها الي حدالاقتتال الداخلي وتجاوز مااعتبره بعض القادةخطا احمر اي اعتبار إراقة الدماءالفلسطينية حاجزا لايمكن تخطيه او تجاوزه. يطرح المشهد الفلسطيني الراهن علي المراقبين, او معظمهم علي الاقل, الاختيار بين ثنائيات متضادة ومزدوجات فكرية وسياسية, فإما مع فتح او ضد حماس او مع حماس وضد فتح, مع المقاومة وحماس او مع فتح والمفاوضات, مع جزء من الأراضي الفلسطينية او مع اعتبار فلسطين وقفا اسلاميا, وهكذا فإن تاج هذا المشهد ومحصلته السائدة لاتترك اختيارا حقيقيا للمراقبين, والدارسين, فأولئك وهؤلاء ليسوا بالضرورة مع فتح او مع حماس, وإنماهم بالضرورة مع فلسطين, وماتضمه من تيارات وطنية وتحريرية, بصرف النظر عن توجهاتها السياسية والفكرية, مادامت بقيت في حدود تحقيق هدف التحريرالنهائي للاراضي الفلسطينية واقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.
والاهم من ذلك ان هذه التقسيمات الثنائية وهذه الاختيارات المحدودة, تغلق الطريق امام استكشاف خلفية المشهد الراهن, والقاء الضوء علي العوامل والعناصرالتي وصلت به الي المستوي الحالي, وفوق ذلك فإنها تختزل فلسطين في فتح وحماس في حين أن فلسطين اكبر من فتح وحماس معا وما هذان الاثنان الا فاعلان سياسيان,ضمن فاعلين آخرين, غيبتهم الظروف السياسية الراهنة وترسيخ المشهد الثنائي القائم. علي ضوء ذلك فإنه بمقدورنا ان نقول ان وراء الازمة الفلسطينية السياسية الراهنة بين فتح وحماس, تقف ثقافة معينة تمثل عمق هذه الازمة وخلفيتها التي لم يلق عليها الضوء الكافي بعد. فكلا الفريقين المتصارعين يعاني من ذات القيم والتقاليد الثقافية التي اوصلت كليهما الي المشهد العبثي الراهن,وهي قيم الاقصاء والاستبعاد والاستقطاب ورفض الآخر والاعتقاد في المطلق ورفض ماهو نسبي, والولاء للافراد والاشخاص والقادة علي حساب المؤسسات والنظام والقانون والاهداف الوطنية العليا.
هذه القيم والتقاليد الثقافية المترسخة في بنية النظام السياسي الفلسطيني هي التي تبرر وتسوغ الانفراد بالسلطة والاستئثار بالموارد, واحتكار الشأن العام الفلسطيني فهي تكره المنتمين لهذه الحركات الي التماهي مع شخوص القيادات وبرامجها وتخطيطها, والانخراط في خطاب الزعامة دون نقد ودون مساءلة, ودون تحسب للنتائج التي تترتب علي التعبئة وفق هذه القيم.
ويفسر غياب المراجعة والنقد الذاتي وتآكل القدرات النقدية لقادة هذه الحركات, الاستمرار في المشاهد العبثية الراهنة, وكسر جميع الحواجز التي اكدت عليها هذه القيادات لفظيا وتخطتها محليا.
ان غياب النقد والقدرة علي المراجعة النقدية والقصورعن بلورة رؤي جديدة واستكشاف اوجه القصورفي الرؤي السائدة, تجلياتها في الاداء العملي, هو اس البلاء ليس في الحالة الفلسطينية فحسب بل في الحالة العربية عموما.
غياب النقد الواعي والبناء للتجربة الفلسطينية قبل الحكم الذاتي وبعده, هو المصدر الاساسي الذي انبثقت عنه الازمة الراهنة, لان هذا الغياب يحول دون تراكم الخبرة الوطنية ويضعف الملكات والقدرات الضرورية للتقويم والتمييز بين السلبيات والايجابيات فلا تخلو اي تجربة من الايجابيات والمزايا,كما لاتخلو بالضرورة من السلبيات ويفضي غياب القدرة علي التمييز والتقييم الموضوعي الي ترسيخ الاعتقاد في ضرورة البدء من جديد واعتقاد كل حركة تسعي للتغيير, في حتمية الابتداء من الصفر, والتحرر من الماضي وشق طريق جديد للبناء, وكأن شيئا لم يسبقها او كأن شيئا لن يلحقها, والنتيجة العملية هي الاحادية في النظر والعمل, وحرمان روافد النضال الوطني من التعددية والتنوع, في بوتقة واحدة تنصهر فيها الاهداف الوطنية الفلسطينية العليا.
ويترتب علي ذلك ان الخطاب الفلسطيني العام يزخر بالمفردات التي تنم عن الارتياب والتآمر وفقدان الثقة والتكفير والتخوين,والاقصاء والتشويه والاتهام والتوجس, مثل الفلتان الامني والانقلاب والحسم العسكري والعمالة وتنفيذ مخططات خارجية وغيرها الكثيرمن مثيلات هذه المفردات.
وقد يبدو لغير المدقق ان هذه المفردات مجرد كلمات تسبح في الفضاء ويتوقف الامر عند هذا الحد, بينما في حقيقة الامر فإن هذه المفردات واستخدامها علي نطاق واسع يرتبط ارتباطا وثيقا بتشخيص الواقع, ويعين اسلوبا محددا في حل ومعالجة المشكلات ونمطا معينا لرؤية الواقع وتغييره, فهذه المفردات ينظر من خلالها الفاعلون السياسيون للواقع, ولايرون الواقع الا من خلالها وعبر دلالتها, وفضلا عن ذلك فإن هذه الكلمات تتسلل الي وعي المواطنين والمنتمين منهم الي هذه الحركات وتتحول بالنسبة اليهم الي قواعد مرشدة في العمل والاداء ومعاييرلتقويم اخلاصهم وانتماءاتهم السياسية, وتمثل اداة للتحريض علي خصومهم وتبرير تصفيتهم جسديا او معنويا وسياسيا.
وفي هذا الاطار فإن اصلاح ذات البين بين حركتي فتح وحماس مابين سلطتي رام الله وغزة يتطلب اولا وقبل كل شيء مراجعة نقدية شاملة للخلفية الثقافية التي تمثل مرجعية السلوك السياسي,و هذه المراجعة النقدية الشاملة لاتقتصر علي فريق دون آخر, بل تشمل جميع الفرقاء كما تتطلب ايضا تصحيح التوصيفات القائمة للخصوم وتحريرها من نزعات التوجس والتآمر والاحادية واستعادة الخطاب الفلسطيني العام لروحه الوطنية وتعزيزالاهداف المنشودة فلسطينيا بهدف اعادة بناء الاجماع الوطني حول اهداف حركة التحرير الفلسطينية.