لو لم أستجب لطلب مدير المدرسة، صديقي من أيام الطفولة، لما التقيتُ بها، ولو لم أقدِّم تلك المحاضرة العصماء عن الأدب والتجربة الأدبية ودور المرأة فيها، لما مكَّنتُها من الدخول إلى أعمق ركن يمكن أن تصل إليه في متاهات نفسي المتعبة، المتشوفة إلى امرأة تملأ فراغاتها الرهيبة المرعبة.
الكلام يتدفَّق من فمي مثلما يتدفق اللمى من فم امرأة اشتاقت إلى رجل، فبدت شفتاها وكأنما هما عالم ينتظر عالمًا آخر مماثلا.
أتحدث وأتحدث وأتحدث. أكتشف أنني أتحدث إليها، إليها هي. هي من تريد أن أواصل.
الطلاب متعبون. هي لا...عيناها تشجعانني على مواصلة الحديث. كلماتي تلمع على نظارتها الطبية. أشعر بقوة هائلة تتدفَّق من أعماقي. لو لم يبقَ واحد في العالم سواها فإنني سأواصل.
ينتهي اللقاء.
تنصرف. أتابع عجيزتها.
تدخل غرفة المدير. تخرج. يخرج المدير. يرحب بي. يبالغ في ترحيبه. أفهم أنها قدَّمت شهادة إيجابية. أفكر ماذا دفعها؟ أهي كلماتي؟ أم أسباب أخرى؟ يجب أن أعرف. أريد أن أعرف. لأدنو منها. أدنو. لأسالها. ماذا أسالها؟ عيناها تدعوانني من وراء نظارتها الطبية لأن اسأل. أشعر أن بإمكاني أن أطرح أي سؤال كي تفتح لي أبواب الجنَّة المغلقة.
-أعجبتك المحاضرة؟!
تبتسم. عيناها تقولان كلاما لا أفهمه. أجتهد في فهمه. أعجز. أسلم أمري للوقت. المهم أن أواصل الكلام.
أكرر السؤال. لا ترد. تطرح سؤالا لا يفصح عما في أعماقها.
-أنت من قرية مهجرة إذا؟
لا أعرفُ ماذا أقول. تتابع:
-أنا أيضا من قرية مهجَّرة. ولدت بعد سنوات من تهجير الأهل. بالضبط مثلك.
أجواء المدرسة تأخذني. أتطلع إلى ما يحيط بي. المدرسة حافلة بالمعلمات. أيُّهن تشبه زوجتي؟ أتحول من زوجتي بسرعة إلى مهجَّرتي. أيهن تشبه مهجَّرَتي؟ النساء هنا سمينات. كلهنَّ سمينات. أراقب أردافهن. منذ تركتُ زوجتي وعجيزتها الصاخبة وأنا أراقب خلفيات النساء وكأنني لم أرَ ردفا في حياتي. بإمكانك أن تعرف المرأة من دبرها، فإذا كانت ذات فقار عريض فأعرفُ أنها لا يهمها شيء، ومن الممكن أن تتركك وتمضي دون أن تلتفت إلى الوراء، وإذا كانت ذات ردفين مهتزَّين، فاعلم أنها يمكن أن تلاعب العالم عليهما دون أن يطرف لها جفن.
تستغرقك الأفكار. تحاول أن تستفيد من قراءاتك المكثَّفة في الجنس لخلفيات النساء. ما قرأته في "الكاما سوترا" و" ألانانا رانجا" قد يسهل عليك. في هذه المؤلفات ترتبط حركات المرأة بتعاملها مع الجنس، فإذا كانت تحب تقبيل الأطفال، فإن لديها رغبة شديدة، ويسهل التعامل معها، وإذا كانت ضحوكا ولا تخبئ أسنانها براحة يدها، فإنها تقبل على الرجل بسهولة. اعلم أن لكل امرأة مفتاحا، وإذا ما رفضتك امرأة فلا تيأس. ابحث عن مفتاحها وسوف تجده.
تختفي مهجَّرتك. أين هي؟ تفتعل الحركات كأنما أنت تبحث عن مرافق فقدته. تصل إلى غرفة المدير، وباب المدرسة. تعود إلى داخل المدرسة. لا تجدها. تغمض عينيك. تريد أن تتصوَّر كفلها. أي نوع من النساء هي؟ وما هو شكل دبرها. اكتشف أنني لم أرها إلا مقبلة. ينادي عليك المدير. تذهب. تلتفت إلى الوراء للمرة الأخيرة. تراها هناك مديرة ظهرها مدبرة. فقارها هادئ. هل هي هادئة؟ المدير يمضي أمامك. أنت تمضي وراءها. المدير يناديك، وسؤال حائر يناديك أيضا. تدنو منها تسألها عما إذا كانت ستأتي لمواصلة اللقاء في الطابق الثاني. ترد عليك بأنها على استعداد لمرافقتك إلى حيثما تشاء.
حاولت في الأيام التالية أن أقرأ كفلها. لم أتوصَّل إلى أية نتيجة وكنت كلما طرحت سؤالا يفضي إلى آخر. اكتشفت بعد أيّام أن أي سؤال يمكن أن يكون مصيبا، وأن يكون مخطئا في الآن ذاته. هكذا وصلت إلى طريق مسدود لا مخرج له، ثم كيف أطلب الإجابة دون أن أكون على اتصال بها؟ ودون أن أعرفَ عنها سوى أنها مهجَّرة مثلي؟!
أسلمتُ أمري في النهاية للوقت، فإذا قدَّم إجابته، تحالف العالم على طريقة بول كويليو وساعدني في قراءة أغرب كفل رأيته خلال ثلاثين عاما، وإذا لم يقدِّم إجابته تركت الأمر لأنه لا نصيب لي فيه.
بعد أسبوع أغمضتُ عيني، فرأيتُ نظارتها وكفلها ولم أعد أرى بسرعة، وما أوشكت أن أنسى ملامحها حتى تلقيت رسالة منها. أقرأ. لا أفهم. أقرأ وأعيد القراءة. لا أفهم. أحاول أن أعيد روابط مفقودة بين الكلمات. أفهم أن هناك سيدة تدعو رجلا ليعيش يومًا أطول من قرن، وأنها لا تريد أن تغادر هذا العالم دون أن تجرِّب أمرًا أرادت أن تجربه، وأنها هي من سيكون الضيف والمضيف(!!) ترى هل تمكنني رسالتها من قراءة كفلها؟
لم تمكِّني بل زادت في حيرتي.
في الأشهر الستة التالية توطَّدت العلاقة بيننا. تبادلنا الرسالة تلو الرسالة وكنت كلما اعتقدت أنني أقرأ كفلها، أكتشف أنني سرت في طريق الخطأ، وما أن أعتقد أنني اكتشفت الحقيقة ووصلت إلى حرها، حتى يتبيَّن لي عبث ما اكتشفته!! كانت ما أن تفصح عن أمرها حتى تخفيه وما أن تفي باللقاء حتى تخلفه. كانت تأتي ولا تأتي. تحضر كالغائبة وتغيب كالحاضرة. يركض كل منا باتجاه الآخر وما أن يصل إليه، حتى يكتشف أنه ما زال بعيدًا عنه، كأنما هو لما يغادر مكانه بعد. المسافات بيننا أضيق ما تكون وأوسع ما تكون، وكنا مثل تمثالين حيين يسعى كلٌّ منا إلى الآخر ولا يتقدم.
ومضت سنة وتلتها سنة، وجاءت سنة جديدة وأنا أحاول أن أقرأ كفلها الهادئة، دون أن أفلح. عدت إلى الكاما سوترا والأنانا رانجا، وسألت الشيخ النفزاوي وروضه العاطر، ولم أجد إجابة.. وعدت إلى السنوات الماضية وإلى ما حفلت به من مشاعر ونظرات عبر نظارة طبية، وكنت كلما مرَّ الوقت أغرق في هدوء كفلها.. أغرق أغرق.