دار المظالم

موضوع: دار المظالم الأحد ديسمبر 07, 2008 12:56 pm

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

دار المظالم
ـــــــــــــــــــــــ
ارتسمت على وجهه نظرة ماكرة وهو يقول :
ـ لقد طلقتها .
ثم تعالت ضحكته المستهزئة , وهو يشير إلي الركن المقتسم من داره :
ـ لقد خصصت هذا الجزء لها .
تأمله الرجل الآخر بعناية ، وهو يدير طاقيته ، واستغرق في التفكير ، وقد علقت في طرف عينيه نظرة خبث ثم بعد فترة صاح منفعلا :
ـ أريد أن أؤجر الركن الجنوبي من الدار .

أجابه صاحب الدار :
ـ سبقك أحدهم ، واستأجره مني .
تلوى وجه الرجل في استنكار متسائلا .. فأجابه صاحب الدار بإشارة من يده إلي الدار المقابلة المكونة من طابقين ، وكان يظهر من بنائها علامة الترف ، كأغلب دور القرية .. فأخذ يزوم بسخط :

ـ لكنه لم يطلق زوجته بعد !
مد صاحب الدار يده .. قبض علي رسغ الرجل وجذبه ، ثم لفا حول الدار حتى وصلا إلى الجهة الغربية منها ، ووقف أمام باب بال ، ثم قال متلطفا :
ـ لا تتكدر .. هذه سوف تفي بالغرض وزيادة .
ولجا إلي الداخل .. رفع الرجل رأسه إلى السقف المعروش ، واضطر أن يرخي أهدابه ، من أشعة الشمس التي وجدت طريقها في خطوط كبيرة دون عناء ، من خلال الثقوب الكبيرة في العريش المكون من سعف النخيل ، والمغطى بالقش .
فرك الرجل راحتيه ، وتنفس في ارتياح .. قال :
ـ الآن يمكنني أن أطلق امرأتي .
في الطرف الآخر من الشارع ، الذي يحده تلة كبيرة من الرمال ، نمت على أطرافها شجيرات .. لمحا صبيا يجري صوبهما ، وهو يصيح في انفعال جارف :
ـ المفتشون في الطريق .
في ثوان معدودة اختفى الرجل ، بينما طاول صاحب الدار رأسه إلى داخل باب قريب من باب الركن المقتسم ، وصاح آمرا :
ـ هيا استعدي ... لقد حضروا .
برزت من داخل الدار امرأة متوسطة العمر ، تضع فوق جسدها القصير النحيف ملابسَ مهلهلة ، ثم دخلت إلي الركن المقتسم من الدار ، وقد أمسكت في يدها مكنسة مصنوعة من قش الأرز ، وانحنت تكنس الأرض العطنة ، من بقايا علف البط الممزوج بفضلاته الرطبة ، وتدفعها فوق كومة من القمامة ، لها رائحة كريهة نفاذة .
خارج الدار توقفت سيارة خرجت منها سيدة تمسك في يدها أوراقا ، وبصحبتها ثلاثة رجال .. هتفت بالفتاة المتكئة علي إطار الباب ، وقدرت أنها لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها :
ـ أين والدك ؟
قالت في بساطة :
ـ إنني زوجته .
مطت السيدة شفتيها في امتعاض .. قالت :
ـ إذن أنت زوجته الثانية ؟!
أومأت الفتاة برأسها في صمت ، ثم توارت عنهم ، وبرز صاحب الدار إليهم ، وقد رسم على وجهه علامة الغضب .. هتف بأحد الرجال الثلاثة :
ـ لن أقول لكم أي شيء ، حتى يحضر مفتش من الوزارة ، كي يبحث حالتي وحالة طليقتي .
هتفت السيدة :
ـ إنني مفتشة من الوزارة .
لم يكترث لها صاحب الدار ، وهو يقول للرجل :
ـ أنت لم ولن تنصفني ..
قالت السيدة بحسم :
ـ أين تعيش طليقتك ؟
اصطحبها صاحب الدار إلي الجزء المقتسم من الدار ، وكانت طليقته لا تزال تكنس ، وقد زادت كومة القمامة ، وارتفعت فوقها سحابة ترابية .. بينما اتسخت ملابسها ، وأصبحت في حالة مزرية ، فمسحتها السيدة بنظرة سريعة وهي تغطي أنفها بمنديل ورقي ، وسألتها بنبرة متشككة :
ـ تعيشين هنا ؟!
أومأت المرأة برأسها ،وقال صاحب الدار في صوت زاعق :
ـ نعم المسكينة تعيش في هذه الدار
تأملت الثقوب الكبيرة ،التي تطل برأسها من العريش ، وقد تناثرت بقع الشمس الباهتة علي الجدار الحجري .
رمت السيدة الرجل بنظرة استغراب .. ثم قالت :
ـ لنذهب إلي دارك إذن .
لم تكن باقي الدار بأفضل حال من الأخرى ، سوى بعض الأثاث المتهالك ، ودورة مياه تراكم داخلها كومة من الأخشاب ، شكلت فيما يشبه المرحاض .. تنفست السيدة الصعداء ، وهي خارج الدار ، ثم جلست علي أريكة جرداء ، وأسندت ظهرها إلى الحائط ، ووقف الرجال الثلاثة يراقبون ما يحدث في صمت .
سألت صاحب الدار الجالس قبالتها علي أريكة أخرى :

ـ لماذا طلقت زوجتك إذن ؟
أجابها بسرعة ، كأنما أعد الجواب مسبقا :
ـ لقد اكتشفنا أنها أختي من الرضاعة .
نظرت إليه السيدة متبرمة.. فقال دون أن يترقب سؤالها التالي :

ـ لقد أرضعتني أختها ، وبذلك فهي محرمة عليّ إلى الأبد .
قهقهت السيدة عاليا ، وقالت بسخرية لاذعة :
ـ هكذا فجأة ؟!
رمت المرأة المستكينة بجوار طليقها بنظرة متوعدة ، وهتفت بها مهددة :
ـ سوف نأتي العام القادم ، وأنت تحملين طفلا ..
صاحت المرأة كمن لسعها عقرب
ـ حاشا لله .
صاح صاحب الدار :
ـ أصبحت غير قادر على العمل والكسب .
نظرت السيدة في الأوراق التي تحملها ، فوجدت في استمارة الفحص الطبي الموقعة من ثلاثة أطباء تقريرا ،إنه عاجز عن العمل ، وإنه لا يملك أية حيازة زراعية .
تبادلت السيدة والرجال النظرات ، ثم صاح أحدهم في ضجر:
-ـ هيا !!
بينما كانت السيارة تنطلق ، تجاه التلة ، التفتت السيدة إلي الفتاة الواقفة تشيعهم بفضول .. قالت في ضيق :
ـ الرجل متزوج بأخرى ، وفي حضانته طفلان من زوجته الأولى، وبذلك سيحصل علي أكبر فئة للمعاش
قال أحد الرجال :
ـ والمرأة أيضا ستحصل على معاش مطلقة تعول طفلين ، وسيكون لها نفس المعاش ، بالإضافة إلى المنحة الدراسية ..
صاح آخر في حنق :
ـ أي سوف يحصلان علي راتب أكبر من الذي أتقاضاه .
صاح الثالث في نبرة غضب :
ـ سوف يصدق الوزير شكوى الرجل ، ولن نحصد إلا الحنظل .
ما أن اختفت السيارة ، حتى فتحت الدور أبوابها المغلقة ، وتدافع الرجال صوب صاحب الدار ، وهم يتصايحون :
ـ نريد أن نؤجر جزءا من دارك .
رفع صاحب الدار يده عاليا ، وهتف بصوت جهوري :
ـ سوف أقيم دارا أخرى للمظالم لتكفي أهل القرية