لن يذهبوا إلى الجحيم إنهم يحيون فيه

كاد يمضي من نهار العمل ذاك ساعتان ليس أكثر. أنفرد في إنجاز مهمة صغيرة، فأضع سماعة مذياعي الصغير على أذني، وأقلّب المحطات لاصطياد خبر جديد، لكن الأخبار صامتة لا تقول شيئاً عدا ما اجترته علىمرأيام.أعاند نفسي وأضغط زر الموجة مراراً حتى تستوقفني إذاعة الجيش الإسرائيلي.
"لا بأس ما دمت أفهم ما يقال بالعبرية " ثمة مسابقة لاختيار طائر يكون رمزا قوميّا لدولة إسرائيل. المذيع يجري لقاءات مع بعض خبراء الطيور المكلفين بذلك. قال أحدهم: " أختار الدوري، لأنه عصفور قوي، ينتشر على جميع أراضي الدولة، في المدن والقرى على السواء، يستطيع التأقلم مع الظروف الجوية المختلفة، وهو كثير العدد لدينا ". طفح يسهب في وصف العصفور، حتى كاد يشركني في المسابقة. حدثت نفسي: " لم لا؟، الدوري هو الأنسب بالفعل، لكن، ماذا يمكن أن أختار بدوري عصفوراً يمثل الفلسطيني، ويعبر عن حاله؟ الأصوب أن أختار السنونو، فجناحاه قويان تحملانه لأماكن بعيدة على مر الفصول، ومنقاره ضعيف، وبيته من طين هذه الأرض، لكنه مباح لعصفور الدوري، يطرده منه بعد أن يقتل الصغار ويرميهم خارج العش، ثم يستوطن المكان. حسناً، إنه الاختيار الأنسب " . لم تتداعَ أفكاري أبعد من ذلك، فصيحات زملائي تدعوني للغداء. نتحلق حول طاولة من خشب أعددناها بأنفسنا، ويفرد كل منا زاده عليها. نزدرد طعامنا بصمت يمتد حتى انتهاء الوجبة، فيكسره أحدنا بخبر عن غزة:
" لقد فجر الفلسطينيون الجدار الحدودي مع مصر، واجتازه أهل غزة هربا من موت محقق" .
أجابه آخر على الفور: "أولئك الفلسطينيون هم سبب البلاء، فليذهبوا إلى الجحيم وليدعونا نعيش " .
آزره ثانٍ، فدار حوار نزق أشبه بنزاع ٍ على تخوم الاحتراب، لم أشارك فيه إلا ببضع كلماتٍ وجهتها لهذا الآخر أو الآخرين، بعدما استحضرت ذاكرتي وأنا أسمع حججهم، أبيات الشافعي: كلما أدبني الدهــر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علماً زادني علـماً بجهــلي
واستعرت كلمات سلمان الفارسي ( لا تقل ما لا تعلم فتتهم فيما تعلم ) ثم أضفت: أهل غزة لن يذهبوا إلى الجحيم، إنهم يحيون فيه. لكن الآخر واجهني بصمت الجاهل المرتبك، فتركته قاصداً ركن العمل الذي أنفرد فيه، وضعت سماعة المذياع على أذني، وأخذت ألاحق أخبار غزة. فيلاحق قلبي المستنفر داخل صدري شعور موجع مهين، ويكبح جفاف الهواء الراكد في فسحة المكان جرأتي على البوح.