ننادي باستخدام البحث العلمي ونترفع عن استخدام لغتنا القومية

تزداد الدعوات يوما بعد آخر في استخدام اسلوب البحث العلمي في حياتنا العلمية والعملية ، ولا شك ما لاستخدام البحث العلمي من انعكاسات ايجابية ، على اية عملية تطور وتنمية منشودة ، ولا شك ايضا ان للبحث العلمي دورا بارزا في الرقي والتقدم، والذي وصلت من خلاله امم الارض ودولها المتقدمة ، من انجازات العلم والمعرفة وتحقيق التكنولوجيا ، في شتى المجالات .

ان العلوم والمعارف وانتاج التكنولوجيا لن تتحقق في أي بيئة من البيئات الاجتماعية، ما لم يتم ما يسمى ببيئة العلم ، أي انتقال العلم والمعرفة الى البيئة و ارض الواقع ، ليتلاءم مع المجتمع الذي نحن فيه ، وبشكل خاص الى لغة المجتمع ، ولان لغتنا لغة حضارة ، وفيها من القابلية والمرونة ، لاستيعاب علوم الارض ومعارفها ، فان العيب يكمن ليس في اللغة ، بل بأهل اللغة انفسهم ، الذي يتشدقون بالاجنبية ، وفي معظم الاحوال قد اضاعوا لغة الام ، وتأتأوا في لغة الاسياد الذين درسوا على ايديهم .

عندما كنا في اميركا للدراسات العليا ، كانت مراكز اللغة الانجليزية تصر علينا ان نفكر باللغة ونحلم بها ، هم يريدون ان تتقولب عقولنا باللغة الاجنبية ، وا ن نبتعد كلية عن جذور لغتنا الوطنية ، لان اللغة وعاء الثقافة ، ومن كانت لغته اجنبية على حساب اللغة الوطنية ، فهو بعيد كل البعد عن الاهتمام بما لدى اصحاب هذه اللغة من هموم ومشاكل ، ومن وسائل وطرق للتقدم ، تصلح ان تخدم المجتمع الوطني ، الذي ننتمي اليه ، وننشد لها كل التطور والازدهار ، وهو مقطوع الجذور ولا صلة له لا بارض الواقع ولابطموحات ابناء المجتمع ، ايا كانت المظاهر التي يتمظهر بها ، وهو خطر على اطفاله ، بحكم التربية التي يتشربونها من البيت الذي يقوده .

يتحاججون ادعياء استخدام الانجليزية على وجه التحديد ، انها لغة العلم والتكنولوجيا والبحث ، ونحن لا نجادل في ذلك ، ومن يقول ان لا نستفيد من العلم والتكنولوجيا والبحث ، بما يتيسر في اللغات الاجنبية ، ولكن كيف يمكن لمجتمعنا ان يتطور بدون ان لاننقل له العلم والمعرفة والتكنولوجيا ؟ ، وكيف يكون ذلك بعيدا عن استخدام اللغة الوطنية والقومية والدينية ؟ ، ولماذا امم كثيرة اقل منا شأنا ومكانة وثراء ، تستخدم لغتها الوطنية في العلم والمعرفة ؟ ، ونصر نحن ان نكون تابعين ، وفي التبعية ذل ومهانة ، وهل لغتنا عاجزة ام العيب فينا ؟، وكما قال الشاعر :
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا .

العالم والباحث الذي يعجز عن ان ينقل ما تعلمه ، او ما يختزنه عقله من علوم ومعارف الى لغته ومجتمعه هو فاشل ، وهو عالة على المجتمع ، ولا يفيد البحث العلمي في شيئ ، فهو في مختبره يتعامل مع اللغة الاجنبية ، ومع مجتمعه والتعامل معه والتحاور واياه ، ونقل ما لديه من علوم ومعارف من خلال لغته الوطنية ، فالعالم حالما يغادر مختبره يخلع الروب الذي يرتديه في المختبر ، لننظر الى الدول الاوروبية كل منها يعتز بلغته الوطنية ، ولننظر الى دول لاقيمة عالمية لها ، ولا وزن حضاري تمتلكه، تحترم لغتها الوطنية ، وتدرس العلوم والمعارف في جامعاتها بلغتها الوطنية.

صحيح ان لغة القوي هي اللغة التي تفرض نفسها ، ولكننا في عصر العولمة التي هي الامركة ، التي لاتريد ان تسود فحسب ، بل تسعى الى الهيمنة والسيطرة ونهب ثروات الشعوب وخيراتها ، ونحن نقاوم العولمة و ندعو الى العالمية ، التي تعني التعددية، فهناك اكثر من لغة عالمية معترف بها في العالم وفي هيئة الامم ، ومنها لغتنا العربية، اللغة السادسة بين هذه اللغات ، وهناك دول وشعوب تأبى الا ان تستخدم لغتها الوطنية، الى جانب انها لاتنسى ان تهتم باللغة الاجنبية ـ الانجليزية ـ ، ولكن ليس على حساب اللغة الام ، كما يفعل البعض منا في استخدام الاجنبية في الشارع ، وفي حديثه مع الناس ، وفي القاء محاضراته ، والتي اجدى له ان تكون بلغته الوطنية ، لانه يتعامل مع ابناء وطن ، لم يتم استيرادهم من اية ولاية اميركية ، او مقاطعة انجليزية .

البحث العلمي لن يكتب له النجاح اذا كان الدعاة له ممن يترفعون عن استخدام لغتهم الوطنية ، او ممن لا يجيدون نقل ما يملكون من علوم ومعارف وابحاث الى لغتهم الوطنية ، حتى يستفيد منها المجتمع ، فمن حق الباحث ان ينشر ابحاثه في الخارج بالغة الاجنبية التي يريدها ، ولكن من الواجب عليه ان تنقل هذه الابحاث الى الساحة التي يستفيد منها المجتمع ، وان تكون في خدمة هذا المجتمع .

اللغة وعاء الثقافة والعلم والمعرفة ، فاذا ضاع هذا الوعاء ، ماذا بقي لدى صاحبه من علوم ومعارف ؟ ، ثم اذا كانت لغتنا لغة امة لها تاريخها الحضاري ، واستوعبت علوم الامم التي سبقتها، واذا كانت لغة دين سماوي تعهده الله بكتابه العربي بالحفظ ، واذا كانت لغتنا فيها وسائل متعددة من امكانية استيعاب ما يرد اليها من الفاظ ، في الاشتقاق والترجمة والتوليد وغيرها ، فلماذا نحجم عن اثرائها ؟ .

علينا ان ننهض بالبحث العلمي ، ولكن بلغتنا الوطنية والقومية والدينية ، ولا مانع ان نبحث وان نتواصل مع لغات الامم الاخرى ، لننقل ما لدينا وننقل ما لدى الاخرين ، فالحضارة انتاج كل شعوب الارض ، وجميعهم شركاء في السلم الحضاري ، ولن يكون ذلك الا بالتفاعل مع كل هؤلاء الشركاء، مع الاخذ بعين الاعتبار ان يكون لنا مكان في هذه الشراكة ، ولن يتم ذلك ما دمنا لا نملك القدرة على ببيئة العلم والمعرفة والتكنولوجيا ، لتناسب مجتمعنا ويستفيد منها ، ويبني عليها ، حتى تكون فيها خواصنا وسماتنا ، التي تحدد هويتنا الوطنية والقومية والدينية ، فهل من مجيب؟، ام اننا سنردد مع الشاعر : لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي .
البحث العلمي بوابة الرقي والتقدم ،ودعونا ان نسلك ابوابه المفتوحة امامنا ، لا تلك الموصدة في وجوهنا ، فنحن مصابون بداء الكسل ، لان لغتنا لا تعاني من الضعف والكسل بالقدر الذي يعاني اصحابها ، وان لا نقدم الاخرين على انفسنا ، لاننا قادرون ان ننهض بكل قوة وعزيمة ، دعونا من الشتم الذي تشتمونا به ، من مثل اين هي الامة التي نتحدث عنها ؟، اين هو العلم الذي تريدنا ان ننتجه ؟ ، اين هو المشروع القومي الذي تبشرون به ؟ ، اين هو المشروع الاسلامي الذي تنادون به ؟ ، فالامة موجودة ولها مشروعها الحضاري العربي الاسلامي في نفس كل مواطن ، وهو مهمة كل مواطن يأبى ان يعيش في الذل والهوان ، في سطوة الفقر في العلم والمعرفة والغذاء ، وفي انتشار الامية الثقافية والحضارية والمعرفية ، والتي تصيب عقول الذين يغردون خارج اسوار بناء الامة ، ونموذجها الحضاري ، عندها فقط تنجح دعوات البحث العلمي وضرورة السير على طريقه .