تفتخر معظم دول العالم بكفاءاتها العلمية، فالإحصاءات التي تنشرها وسائل الإعلام المختلفة تتناول العديد من مناحي الحياة وتفاصيلها، لكن أهم ميدان يتعلق بقياس تطور الأمم وارتقائها هو ميدان مقاييس وإحصاءات القيمة العلمية والثقافية للمجتمع، أي إحصاء الكوادر والكفاءات العلمية والثقافية التي يتمتع بها بلد معين. وعادة ما يلجأ السياسيون أثناء تقديمهم للمشاريع المختلفة ــ كخطوة أولى ــ إلى الاستعانة برأي العلماء والمختصين في تلك المشاريع، ولا يتم الإعلان عنها إذا لم تكن قد حظيت بموافقة هؤلاء المختصين بعد دراستها وبحثها والتأكد من جدواها. وحيث أن السياسي لا يمكن أن يكون مختصاً في كافة العلوم والمجالات كان من الضرورة بمكان أن يجمع السياسي حوله لفيفاً من أصحاب الخبرة والاستشاريين الاختصاصيين في سبيل النجاح في العمل السياسي والاستراتيجي والاقتصادي والتنموي وبناء وتطوير البلاد. هذا ما يحدث في معظم دول العالم أو أكثرها.. إلا في العراق.. فالسياسي يشعر بنقصٍ واضح المعالم أمام صاحب الكفاءة أو العالم أو المثقف!.. لذلك ليس غريباً أن يحتقر السياسيون من مختلف المشارف دور المثقف الطليعي في المجتمع. فلو أجرينا إحصاءات علي بنية الأحزاب العراقية قبيل الاحتلال وبعده، لوجدنا أن نسبة المثقفين في هذه الأحزاب ضئيلة للغاية، وربما لا تشكل أي نسبةٍ تذكر، بل وإن بعض هذه الأحزاب تتهرب من أي مثقف يحاول التقرب إليها، حتي أصبحت مغلقة علي الجهلة والأميين. لقد أشار أحد الفلاسفة الفرنسيين إلي ظاهرة المثقف السياسي أو السياسي المثقف، وقال إن عالمنا مليء بالمثقفين من كلا الصنفين وربما يحتل بعضهم مواقع متقدمة في الدولة، وقد يجيد الحديث أو المناورة، وربما يكون قد حصل أيضاً علي تعليم عالٍ.. لكنه في كل الأحوال لا يعتبر مثقفاً بمعني الكلمة لأنه قد يكون شخصاً بلا موقف، فالذي لديه ثقافةً ما، وموقفاً ما هو الذي يمكن أن يدعي بالمثقف، وهذا ينسحب علي السياسي أيضاً، فليس كل من حصل علي عضوية البرلمان وإن كان متخرجاً من أرقي الجامعات يتمتع بحصانة المثقف. إذن فإن الكفاءات العراقية، لأنها كفاءات متنوعة وقديرة وتتمتع بمقومات علمية وثقافية لا تجد من شريحة السياسيين أو مثقفي السلطة استجابة لمطالبها، والسبب هو الخوف من هذه الكفاءات في احتلال ناصية الأمور ومزاحمة السياسيين، في حين أن الكثير من مرافق الدولة العراقية حالياً تغص بغير المتعلمين ومُزوري الشهادات العليا والأميين وعديمي الكفاءة إلي درجة أن بعض المسؤولين عيّنوا هؤلاء كمستشارين في مكاتبهم المختلفة. فهؤلاء المستشارين أصبحوا يشكلون طبقة أو شريحة طفيلية تعيش علي كاهل الدولة العراقية، وتمارس مهام تجارية وغير تجارية مختلفة، لكنها في الظاهر تتصرف في إطار المهمة التي تزاولها، وهي مهمة إدارة هذا المكتب أو ذاك، بينما نجد أن مكاتب رئاسة الوزراء مثلاً، عادةً ما تكون في معظم دول أوربا المتطورة، مكاتب ذات طبيعة تخصصية تضم طاقماً من المختصين والعلماء والمستشارين المعروفين، وتنشر أسماءهم في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، ويكون عمل كلٍ منهم حسب اختصاصه، وهو تهيئة المشاريع والبرامج والخطط التي تتعلق بجوانب إدارة الدولة، وهذه المهمة ليست سهلة، وإنما تتطلب أشخاصاً أكفّاء وليس أشخاصاً أنصاف متعلمين أو غير متعلمين، كما هو الجاري حالياً في بعض مؤسسات الدولة العراقية. إن الكفاءات العراقية مشهودٌ لها في معظم مؤسسات الغرب، فخيرة الأطباء المعروفين في مستشفيات بريطانيا مثلاً هم من العراق، وخيرة أساتذة الجامعات في بريطانيا وأمريكا وبعض الدول الأوربية الأخري هم من العراق، وخيرة المعماريين العالميين أمثال زها حديد التي فاقت أعمالها أبرز المعماريين، هي من العراق. وخيرة الإعلاميين العرب من الذين تشهد لهم أعمالهم ومنجزاتهم الإعلامية الكبيرة هم من العراق، إضافةً إلي أن أشهر المطربين العرب والفنانين التشكيليين العرب والممثلين أيضاً هم من العراق. كل هذه الكفاءات التي تنتشر في مختلف أنحاء العالم تعاني من الإهمال المتعمد من قبل الحكومة العراقية ومن قبل أحزاب الواجهة السياسية الرسمية، فلم يتحدث لا زعيم حزب ولا عضو برلمان ولا حتي وزير في الحكومة العراقية عن الكفاءات المغيبة في الخارج أو اقترح مبادرةً أو برنامجاً لعودتها. وكأن كافة الجهات التي جئنا عليها تتمني أن لا تعود هذه الكفاءات إلي العراق قطعاً، وقد استغل بعض الأشخاص في طاقم الحكومة موقف الحكومة هذا من الكفاءات العراقية، ووجه أكثر من مرة إهانات علنية للكفاءات العراقية في الخارج، متهماً إياها بمختلف الاتهامات الباطلة، بما في ذلك تجريدها من الوطنية. هذا المنطق هو منطق الخائفين علي مواقعهم والتي لا تناسبهم بأي حال من الأحوال، لأن الموقع الذي يملأه البعض من أنصاف المتعلمين والأميين والطفيليين ليس موقعهم، وكما يقال الرجل المناسب في المكان المناسب، وهؤلاء جميعهم لا يتناسبون مع مواقعهم. المهم أن أي حكومة حكيمة وتسعي لمصالح شعبها عليها أن تفكر بالكفاءات العراقية المعطّلة والمغتربة، وإذا كان من شروط عودة هذه الكفاءات أن تتوفر أهم الشروط وهي الأمن الشخصي، فإن ذلك يتطلب قبل كل شيء عملية تحفيز وتشجيع كبيرة، فليس من المعقول علي هذه الكفاءات أن تعود لتتقاضي ربع راتبها الذي تستلمه حالياً من خلال وظائفها وأعمالها، وأن الغالبية القصوي لديهم عوائل وأطفال مسؤولين عن معيشتهم.
الكرة حالياً في ملعب الحكومة، ولا يوجد أدني شك في أن بعض أعضاء الحكومة العراقية يفكرون بصورة جدية في تمكين الكفاءات العراقية من العودة والمساهمة في بناء العراق، ولكن قبل كل شيء يجب توفير شروط الحياة المستقرة والهادئة، وأيضاً التعامل مع هذه الكفاءات تعاملاً يتسم بالاحترام والتقييم الصحيح، وليس من المعقول أيضاً أن يجري زج هذه الكفاءات في مؤسسات يديرها أميون أو أنصاف متعلمين، يجب أن تكون هنالك عدالة في توزيع الكفاءات والأشخاص المعنيين. عودة الكفاءات العراقية من الخارج وانخراطها في عملية إعمار وبناء العراق يتطلب مبادرة فعّالة من حكومة المالكي، فهل حان الوقت لهذه المبادرة؟!.. أم لا زال التوجس والخوف من هذه الكفاءات هو سيد الموقف؟!... مجرد سؤال!