إيه افتخر لقالوا الناس عانس
وافرح إذا ما جزت للخاطب ظلال
اضحك وأنا اسمع سيرتي في المجالس
واعرف عيون الناس ما ترحم الحال
حالي مثل من هو على الباب حارس
يحفظ كنوز ما تقدّر بالأموال
صعبة يجي إنسان ما هو بفارس
ياخد بنية ينضرب فيها الأمثال
ولا يجي طايش وجاهل مدارس
أكبر طموحه خط بيجر وجوال
طالع القصيدة كاملة
أبيات صادمة، أليس كذلك؟ فهي تقولها ولا تبالي.. نعم، أنا عانس، قد يعتقدها البعض انحيازا لوضع المرأة في دراما العنوسة التي أزعجتنا منذ فترة، ولكن الحقيقة أنها أبيات قابلتني وأنا أبحث عن صدى الظاهرة على شبكة الإنترنت لأجدها منشورة على أحد المواقع الشخصية، وقد علق عليها صاحب الموقع قائلاً: "هذه القصيدة نشرت في إحدى الجرائد الرسمية في دولة خليجية.. وأردت أن أنشرها هنا لعلها تبين مدى خطورة مشكلة العنوسة في بلداننا العربية، رغم أني لم أعرف معاني العديد من ألفاظها؛ لأنها كتبت باللهجة الخليجية.. وما دفعني لأن أختارها هو أن أبياتها تتوالى سريعا كأنها وقع أقدام حصان جامح، وتدوي كأنها ضربات صواعق… كصواعق صاحبتنا، ووقع أبياتها".
باتت أرقام الإحصاءات تنفجر في وجوهنا واحدة تلو الأخرى: 9 ملايين عانس وعزب في مصر، ثلث سكان الجزائر عوانس وعزاب، ونسبة العنوسة تصل في الإمارات 68%، وفي السعودية إلى 26%، والحال قد لا يختلف في قطر، الأردن، لبنان، الكويت…
وبعد أن ينفض غبار الأرقام وقد حملتها إلينا أخبار وتقارير متتالية.. نحاول أن نرى الظاهرة وآثارها ثم نحلل أسبابها، وقد أهمتنا، فأفردنا لها صفحة خاصة عانسون وعوانس تسبقنا مجسات وخبرات صفحتنا "مشاكل وحلول الشباب"، وقد استقبلت كعادتها الملفات الملغومة برغبة في الاكتشاف والمواجهة وتقابلني -في إطار هذه المواجهة- سطور لصديقنا صاحب حملة "الزواج للجميع" على صفحة الشباب، وذلك في تعليقه على محنتنا الاجتماعية: "من يفرض المفروض؟! وكيف نتعامل مع واقع مجنون ومع ثقافة التعذيب؟ واقع الإثارة وتلوث الضوضاء الجنسية صار مجنونا في كل شارع وإعلان... وفي التلفزيون مع كل إعلان وأغنية وشرائط كاسيت.. وفي إعلانات الجرائد…".
استوقفني كثيرا تعبير "ثقافة التعذيب".. كأن الثقافة والفنون التي عليها أن تستوعب لحظات ألمنا وأملنا وتكثف المتناثر تضعه تحت أعيننا نتفرسه ونستمتع بمشاهدته.. كأنها بما يجب أن تعنيه كطريقة شاملة للحياة؛ فلا تمثل مجرد كيان منفصل لأنشطة معنوية وعقلية، وتتعدى كونها مجرد معيار للتجارب والخبرات الإنسانية إلى أسلوب مفسر ومغاير لكل خبرتنا العامة… كأن الثقافة قد تخلت عن كل هذا واستوحشت بإعلاناتها وأغانيها.. بصورها ومشاهدها لتتحالف مع "واقع مجنون" كونه أسوأ ما في زخرف التقاليد وأقسى ما في حداثة العصر وحياة المدينة ليسيطر هذا التحالف على حياتنا الاجتماعية بامتداد خارطتنا العربية من دول الكدح صاحبة أخلاق الزحام، حيث تضغط الحاجة وتنزع عن البشر حقوقهم إلى دول الرفاه التي أخرجت جيوشا من المستهلكين.. "أكبر طموحهم خط بيجر وجوال"!!
بلا خطوط فاصلة.. تتناقل الظواهر وتتعدد في مجتمعاتنا.. وتصلنا الشكوى مصحوبة بأطياف مختلفة من إلحاح الرغبة وحاجة الجسد إلى محاولات البحث عن الاستقرار والسلامة الاجتماعية وسط مجتمع يضغط على العانس -رجلا كان أو امرأة-، مرورًا بقصور الأسرة والمجتمع في تكوين الشخصيات التي تدرك مقصد الزواج، وتدير علاقاتها بشيء من النضج أو خلق المناخ الذي يسمح بتعارف واحتكاك منضبط بين الجنسين في المجال العام يسمح بانتقال هين يسير إلى المجال الخاص.
وسط هذا كله نحاول -هنا- أن نعيد وجه الثقافة والفنون الغائب متجليا في مجالاتها من قصة قصيرة.. سينما.. عمارة.. عبر متابعتنا ومراجعتنا لشكل اشتباك هذه الفنون مع قضية مثل العنوسة، ربما لم ننجح في أن نصل إلى عمق القضية أو نعرض للتساؤلات والمعالجات المختلفة، ولكننا نفتح الباب.. وندعو الجميع للمشاركة والتعليق بما يرونه استكمالا واجبا للفهم والتغيير… فقد تخلص بعد القراءة لما خلص إليه "أحمد زين" في موضوعه عن قصاصي العرب وقسوتهم في تصوير العانس واختزال أزمتها في الحاجة الجنسية، ربما تخلص إلى ضرورة وجود أعمال مختلفة تتجاوز –كما الواقع- ربط العنوسة بظروف الدمامة والفقر، وتنتقل من التعامل مع الظاهرة على أنها استثناء إلى مجابهة الموجات المتزايدة من أبناء الظاهرة بما يتطلب معالجة مختلفة.. معالجة لا تحول المرأة لشيء أو سلعة تماما مثل مؤسسة الإعلانات ومروجي الفيديو كليب.
وقد تتفق أو تختلف مع ما ذكره "ياسر إبراهيم" في تعليقه على معالجة السينما المصرية للقضية، حيث العانس ترسم صورة للضحك أو القسوة.. شخصية ذات خطوط حادة مسطحة بدت بشكل هامشي، وربما تقدمت ببطء لتعكس حقيقة المشكلة وطبيعة الأزمة، وقد تطالب معنا بألا تقف مثل هذه الفنون مكتوفة الأيدي أمام الظاهرة أو تساهم بشكل ما في تغذيتها بالسير مع موجة الإثارة أو تقديم ما يسفه ويسمم العقول، فلا هي حققت الترفيه أو نجحت في الوصول -بما لها من جماليات وقدرات وظيفية- على السريان تحت سطح الظواهر تكشفها لنا وتلهمنا.
أو تلتفت لما ساقته "منى درويش" على لسان المتخصصين عن أثر موضع العمارة وشكلها على حياتنا الاجتماعية.. لما ساهم به التخطيط والعمارة في شكلهما الحالي في تقطيع أوصالنا وإضعاف شبكة علاقاتنا الاجتماعية؛ إذ تضعف من وسائل التقارب وتغذي ظاهرة الاغتراب والعنوسة أحد تجلياتها، أو هي تضغط على نفسيتنا المنهكة في مساكن ضيقة خانقة خالية من تحقق الوظيفة والجمال.
ولا يعد هذا إلا محاولة متواضعة للدخول من إحدى الزوايا إلى تفسير الظاهرة وشكل الاقتراب منها والتعامل مع أبنائها ممن نصفهم بأنهم قد "فاتهم القطار".. قطار الزواج والأمن الاجتماعي والنفسي؛ فجميعهم ونحن معهم ننتظر "قاطرة التغيير" التي تعيننا على فهم ذواتنا ومجتمعاتنا وعلى بناء شبكة علاقاتنا الاجتماعية من جديد، فاللهم ألحقنا بها.