البعث الجديد (قصة قصيرة)

البعث الجديد
حزم أمتعته وكله شوق وحنين إلى منبته الأصلي الذي تركه مُكرهاً ذات يوم، عندما قام بأول تجربة له خارج وطنه، بحثا عن فردوسه المفقود. وكان قد شعر ساعتها وكأنه فسيلة اجتثتها يد غريب من أصلها، لتغرسها في تربة غير تربتها حدثَ ذلك قبل ثمانِ سنوات كاملة، سنواتٌ قضاها في الغربة قضاها في بلد الجليد والصقيع ـ كندا ـ لقد جاء ـ كندا ـ يحمل آمالا عراضا تلُفُّها أحلام وردية، جاء إلى هذه البلاد محاولا تحقيق ما كان يصبو إلى تحقيقه على أرض وطنه،رغبةً منه في ردِّ جميل والديه الكريمين أولا، وردِّ جميل الوطن الغالي ثانيا. ولكن وعلى أرض الوطن، هيهات .. هيهات .
ودّع الأصدقاء والخلان بالنادي العربي الإسلامي، هذا النادي الذي شكّل لُحمة التلاقي والتكاتف والتعاضد عند أبناء الجاليات العربية والإسلامية، فهو العَوض عن كل بعيد مرغوب، حيث لا دفئ العائلة موجود، ولا شذا تربة الوطن موفور.
امتطى سيارة الأجرة نحو مطارـ مونريال ـ والعينان مغرورقتان، والقلب يكاد يتفطر من وخز لحظة الوداع، ولم يجد من عزاء سوى تلك التلويحات باليد اليمنى لمن جاؤوا لتوديعه، ويصل المطار، ويطير بخياله إلى بلدته قبل انطلاق الرحلة الجوية، وتُفحص الأوراق، وترسل الأمتعة، ويستقل الطائرة كما المسافرين، وبعد أن استوت في علياء السماء، فكّ حزامه ونظر من زجاج نافذتها الصغيرة، فلم يتراءى له سوى ندائف القطن المشكلة من حزمة السحاب الأبيض أسفل الطائرة وفجأة انداحت ذكريات الماضي بكل تناقضاتها، فما أشبه اليوم بالبارحة، فرحلة الإياب هذه أشبه برحلة الذهاب إلى كندا قبل ثماني سنوات خلت، وغاص كما الغواصين في أعماق بحر ماضيه السحيق، ودون استئذان، راح يعايش تلك النشوة العارمة التي انتابته في يوم تخرجه كمهندس دولة في الإعلام الآلي فرع البرمجة عن بعد، وهو تخصص حديث جدا، ولَكَمْ كانت فرحتُه كبيرة عندما تفوّق في دفعته وبدرجة مشرف جدا. وارتسمت في مخيلته ـ آنذاك ـ معالم حلم طافح بالأمل في الحصول على وظيفة وبأسرع من البرق، فالمؤسسات ستتهافت عليه كالسيل العرم، وهو ينتقي أحسنها وأفضلها بكل عزة وكبرياء. أهٍ .. لقد كنتّ ساعتها ذلك الشاب الذي يحمل بين جنباته قلبا مُفعما بالأمل المستفيض، شاب استشرف مستقبله بنوع من الإصرار والحزم الكبيرين، لقد كنت شبه متيقّن من دخولي عالم الشغل، الذي كانت نفسي تتوق إليه برغبة جامحة جموح مهرة مدللة، ولكن صمام الأمان هذا بدأت ملامحه تتلاشى يوما بعد يوم، وراحت حبات العرق المتصبب جراء البحث عن الشغل تغسل ما بقي من سطور لذلك الأمل المفقود. حيث بدأت رحلة العذاب .. رحلة البحث المستميت، فلا المؤسسات تهافتت على شخصي، ولا الناس أحسوا بي ككائن ما كان، وتحول الحماس الفياض، إلى إحباط مفعم بالمرارة تجرعته طيلة سنتين كاملتين، وأنا أتنقل بين الشركات والإدارات، بخطى مثقلة بالأرق والملل، سأمٌ يحذوه سأمٌ واستحالت الأيام إلى شهور، واستحالت الشهور إلى سنوات فما أفظع أن يسير المرء عبر طرق ومسالك شائكة، تنتهي دائما إلى نقطة البدء، فنتيجة الخيبة دائما تكون وفي كل مرة مشفوعة بعبارة لا أستسيغها، ولا أحب أن أرددها، فهي مستكرهة لدي، إنها عبارة( ا ن ت ظ رْ) ، في الإدارة ( انتظر) وفي الشركة( انتظر) وحتى تسوية ملف الخدمة الوطنية(انتظر) وطال الانتظار، وأصبحت أمتهن الانتظار. هذا الانتظار بدّل ملامح عزيمة الشباب لدي إلى ملامح عياء الشيخوخة المبكرة. فالشحوب اكتسح وجهي، بعد أن علتْه مسحة من دخان الحزن والأسى، وغارت عيناي في مآقي سحيقة، بعد أن اكتحلت بأثمد اليأس العميق، فتعذّرت عندها رؤية الحقيقة المغيبة، وتشققت شفتاي بعد أن أدماها قحط الأيام، وسهد الليالي، بعد أن جف حلقي حين غص بشوكة الانتظار الدامية، وصار جسمي لا يقوى حتى على الحركة، فلعنة الفشل والإحباط تلاحقاني أنَّى خطوت، وحيثما توجهت. وشعرت حينها بأن سلسلة الإرادة الفولاذية التي تشبثت بها عبر أحلامي الزائفة، انفصمت حلقاتها وتفككت عُراها، وأنه لم يبق من أشرعة زورق الأمل إلاّ أسمال بالية، ولكني متمسك بها على كل حال، علني أجد من خلالها متنفسا للخروج من مأساة الانتظار...
وتشرق الشمس كما تغرب، وينقضي يوم يليه يوم، والحالة المزرية لم تتغير، والأيام لم تبتسم لي على الرغم من مغازلاتي المتكررة لها. فكانت جيوبي تشكو الخواء من شدة العوز، إذ لا أجد ثمن فنجان قهوة أحتسيه كما الأتراب والخلان.. فقدماي انهكها التَّطواف بمعبد الشغل، وجسمي قد مَلَّتْه الأسمال البالية التي اكتسبتْ صفةَ الدوام عن جدارة واستحقاق، والحالُ كما الحال، دونما فائدة تُرجى أو بارقة أمل تضيء سواد أيامي . فما كان لي من حيلة غير الصبر الجميل، ولم أفلح إلاّ في ترويض نفسي على نمط جديد من الحياة التي نقرأ عنها في كتب القصص والروايات... ولما بلغ السيل الزبى قررت الرحيل حينما أُتيحت لي أول فرصة، وكان الذي كان.
استفاق من سبحاته على إثر صوت المضيفة وهي تطلب منه تحديد نوع المشروب الذي سيُقدّم مع وجبة الغداء، فابتسم وحدّد...
مضى من الوقت عشر ساعات، وطنين الطائرة يكسر سكون الفضاء اللاّ متناهي، وفجأة يعلو صوت المضيفة : أنْ شُدُّوا الحزمة فنحن على مشارف أرض الجزائر الحبيبة. فاغرورقت عيناه، وتذكر قول الشاعر:
بلادي وإنْ جارت علي عزيزة وقومي وإنْ ضنُّوا عليَّ كرامُ
وتنتهي الرحلة، ويبدأ البعث الجديد.
نعيمة شلبية كراغل

يعطيكي العافيه قصه جميله

قصة رائعة

ومشكورة عالمجهود


تحياتي

قصة جميلة جدا

قصة رائعه جدا وابداع

الاخت نعيمة كل تحياتي لك ابداع بكتاباتك

رائع

رائعه

مشاركه رائعه
تقبلي مروري
بلادي وإنْ جارت علي عزيزة وقومي وإنْ ضنُّوا علي كرام