مدار الأعمال على القلب فبصلاحه تصلح وبفساده تفسد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )متفق عليه.
وأكثر ما يفسد هذا القلب الملهيات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل ، من شهوات المطاعم والمشارب والمناكح ، وفضول الكلام وفضول النوم ، وفضول الصحبة ، وغير ذلك من الصوارف التي تفرق أمر القلب ، وتفسد جمعه على طاعة الله ، من أجل ذلك شرع الله تعالى لعباده أنواعاً من الطاعات والعبادات تجمع على المرء قلبه وجوارحه ، ليشتغل بعبادة الله تعالى وحده ، ويتفرغ من جميع الصوارف والشواغل ، ومن أجَلِّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو فيها المرء بربه متفرغاً لعبادته وذكره ، منصرفاً عن الدنيا وهمومها ، فتزكو نفسه ويطهر قلبه ، السّنّة التي حافظ عليها نبينا صلى الله عليه وسلم طوال حياته ، إنها سُنّة الاعتكاف ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً ) رواه أبوداود ، وتركه عليه الصلاة والسلام مرة فقضاه في شوال ، وكان يعتكف في العشر الأول ثم الوسطى ثم العشر الأخيرة يلتمس ليلة القدر ، ثم تبين له أنها في العشر الأخيرة ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل .
هذا الاعتكاف لم يشرع إلا لحكم عظيمة من أهمها : زيادة الصلة الإيمانية بالله ، والإكثار من أنواع العبادات التي تزكي النفس ، وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الحياة ، ولهذا كان مقصود الاعتكاف وروحه كما يقول ابن القيم رحمه الله : " عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه ، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يُفرح به سواه ، فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم " أهـ .
وإذا كان هذا هو مقصود الاعتكاف ، فما هو الاعتكاف المطلوب لكي يتحقق المقصود منه ؟ هل هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين وعناوين للمتزاورين ، وفرصة للتفنن في أنواع الأكل ، وتجاذب أطراف الحديث والضحك وفضول الكلام ؟ الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه قسوة ، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله ، الاعتكاف الذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب ، وتقوية العلاقات الاجتماعية ونحو ذلك ؟! كلاّ والله فهذا شيء والاعتكاف النبوي شيء آخر .